شهداء الحزب

وفاءً للشهيد المربي كامل فرنسـي كمّه / كمال يلدو

لم يكتف الطغاة بمحاربة من كان يخالفهم الرأي او العقيدة، بل عملوا على ملاحقتهم واعتقالهم وتعذيبهم ومن ثم تصفيتهم، وحتى تكتمل فصول جريمتهم، فقد عمدوا الى دفن ضحاياهم في قبور جماعية غير معلّمة، ومنعوا اهاليهم من اقامة مراسم العزاء لهم، لا بل ان دناءتهم لم تتوقف عند هذا الحد، بل عمدوا الى محاربة عوائلهم وأبنائهم والأقتصاص منهم بغية إذلالهم، لكن حكم التأريخ لا يخطئ، فعلمتنا التجربة الى اية مزبلة انتهوا.
ولد الشهيد كامل فرنسي كمّه (كامل فرنسو نعمو ـ كما ظهر الأسم في قوائم الشهداءالمنشورة عام ٢٠٠٣) في مدينة تلكيف التابعة لمحافظة نينوى عام ١٩٢٩ وفي (محلة دخو). كان متزوجا من السيدة منتهى حنا هيلنتو، وقد رزقا بثلاث بنات (غصون، غيداء و نادية) وولد واحد (غسان)، ولهم الآن أربعة أحفاد . درس الابتدائية في (مدرسة تلكيف)، ثم أكمل المتوسطة في ( كلية الموصل الأهلية)، انتقل بعدها الى بغداد ليكمل دراسته الأعدادية في الفرع الأدبي الذي تخرج منه بتفوق. عقب ذلك دخل (دورة للمعلمين) والتي كانت لمدة سنة واحدة، وبعد تخرجه منها ، استلم تعينه الأول في احدى (مدارس العزيزية) التابعة لمدينة الكوت، ثم انتقل بعد فترة الى الموصل.
تعرض للاعتقال مع العشرات من ابناء مدينة تلكيف في آذار ١٩٥٩ واطلق سراحه بعد (العفو) الذي اصدره الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم عقب نجاته من محاولة الأغتيال التي نفذها البعثيون والقوميون في نهاية العام ١٩٥٩. عمل بعدها في حقل (الحسابات) لدى القطاع الخاص. اعيد الى وظيفته عام ١٩٦٨ مع المفصولين السياسيين، وعين معلما في احدى مدارس (محافظة أربيل)، انتقل الى بغداد بعد مرور سنوات عدة، وقام بالتعليم في احدى مدارس منطقة (بارك السعدون) حتى احيل الى التقاعد عام ١٩٧٧. عمل بعدها في الأعمال الحرة مستخدما سيارته الشخصية (بيك آب روسي) إذ كان ينقل البضائع لبعض اصحاب المحال التجارية في بغداد.
لم يدم الحال طويلا، خاصة مع اشتداد الهجمة التي قادتها السلطة الدكتاتورية ضد حملة الأفكار الوطنية آنذاك، فقررت العائلة الهجرة الى الولايات المتحدة والألتحاق بباقي افراد الأسرة الذين سبقوهم الى هناك. كان المفروض أن يغادر بغداد يوم ١٨ كانون أول ١٩٨٠، إلا ان شيئا ما حصل في تلك الأيام، غيرت حياته وحياة اسرته وعائلته ومحبيه، مرة والى الأبد!
تقول السيدة منتهى زوجة الراحل: كان اليوم هو ١٥ كانون أول ١٩٨٠، وقد خرج كعادته صباحا، وما أن حل وقت عودته المعتاد حتى دبّت فيّ الشكوك وساورني القلق، وجاء الليل ولم يعد (كامل)، فقصدت المستشفيات عسى أن اجد جوابا ولم أجده، ثم توجهت الى مراكز الشرطة، وبعدها الى مديرية الأمن لكن بلا اي جواب، وبعد ايام وأيام من المعاناة والاتصالات والقلق والخوف ، لمحت سيارته في كراج الأمن العامة، فقلت لهم : (هذه سيارة زوجي) وكان جوابهم انهم سحبوها من الشارع.
ثم قامت العائلة بمحاولة اخرى وذلك بأرسال والدته المرحومة (حنية عبو) من الولايات المتحدة الى بغداد عام ١٩٨١ لغرض (الأفراج عنه بالرحمة) و تسليم العرائض للمسؤولين، لكنها لم تحضَ بأية مقابلة، بل كان جوابهم لها : (إن ابنك مسافر الى الخارج)!
فعشتُ تلك السنين، وأنا اتدبر أمر الأبناء الذين تركهم وهم صغار، فعملتُ في الخياطة فيما ساعدتني عائلتي وعائلة زوجي على تجاوز المحنة. في عام ١٩٨٧ قمت بمراجعة مركز الشرطة بغية الحصول على كتاب رسمي حول (قصة اختفاء كامل) لأن إبنتي ترغب بالحصول على جواز السفر، وهذا يتطلب اما حضور والدها او وجود شهادة عنه !
قال لي الضابط يومها: (إن زوجك ميّت) ، وسلمني كتابا تضمن
ـ سـبب الموت: الأعدام شنقا حتى الموت.
ـ ماهية التهمة: الأنتماء لحزب معاد للدولة.
عاشت العائلة بعد ذلك والهواجس والقلق يحيطها من كل جانب، وأعين المخابرات لا ترحمنا ولا تحترم خصوصيتنا، فأضطررنا الى مغادرة العراق عام ١٩٩٠، وعشنا لاجئين حتى توفرت فرصة الوصول الى مملكة هولندا، حيث اقمتُ انا والأبناء لمدة عشر سنوات، بعدها قدمنا الى الولايات المتحدة بغية لم الشمل مع باقي أفراد العائلة، وها قد كبر الأبناء، ومنهم من تزوج ومنهم من ينتظر، وكم كنت اتمنى لو كان (والدهم) معنا حيا ليداعب احفاده ويلاعبهم ويفرح معهم.
وتكمل السيدة (منتهى) حديثها بالقول: كان زوجي انسانا طيبا، ويساعد الجميع. لقد كان الحائط الذي اتوكأ عليه، وكان سندي بالرغم من قصر السنين التي جمعتنا، لكن ذكراه وأنفاسه بقت معنا وعملتُ جاهدة كي يتحلى الأبناء بأخلاقه الحميدة. لقد احب الناس وشعبه وكان ينادي بالعدالة والسعادة للكل، وهو لا يستحق هذا المصير من قبل حكومة الجلاوزة والقتلة البعثيين.
اما شقيقه الأصغر المدرس صباح فرنسي كمّه فيتذكر الراحل بالقول: كان وطنيا مخلصا بأمتياز، ولم يتردد في اعلان آرائه وأفكاره، وللكثيرين من أبناء جيله كان معروفاً بميوله الوطنية، والتي هي حق مشروع لأي انسان، ولا يجب ان يكون الأنتماء او حمل الأفكار حكرا على احزاب السلطة او رجالاتها. لقد توفيت والدتي عام ٢٠٠٠ وكانت دائما تردد مقولتها: (حتما سأرى كامل قبل وفاتي) لكن للأسف فقد سبقها الى ذلك بسنين! لقد كان بالنسبة لنا كأب، إذ اننا وعينا هذه الحياة انا وأخواتي وكان والدنا قد رحل مبكراً.
** الذكر الطيب للشهيد الراحل كامل فرنسي كمّه، والعار لقتلته المجرمين
** العزاء والمواساة لعائلته الكريمة ، وزوجته وأبنائه ولكل من عرفه وأحبه أو تتلمذ في المدارس على يده.