شهداء الحزب

بمناسبة يوم الشهيد.. روافد نموذجية من الأفق البعيد في تاريخ نضال البصرة / جاسم المطير

أقول بصراحة أن المحكوم بالغربة عن وطنه الأم كالسجين المقيد، يثقله حتى الهواء النقي والرفاه النسبي والأمان الكلي.
في بلدٍ ثان ٍ، بلد المهجر، وجدتُ دافعاً لوجودي الكلي داخل ذكريات وطن الطفولة والشباب والسجون والنضال وضروب من الظلم، الذي سلطته على شعبنا حكومات وانظمة هيمنت على مقاليد الحكم في أزمان سابقة ، تاركة آثارها الظالمة طيلة عقود عديدة من القرن العشرين. لهذا السبب بالذات لا أشعر بالانفراد والتوحد ، بل أجد نفسي حاضراً حضوراً مستمراً في ذكريات الماضي، مثل حضوري في الواقع الراهن . أحاول هنا أن اكتب كلمة اشرح فيها أو أعبّر عن شيء يتطابق مع الذكرى السنوية ليوم الشهيد الشيوعي. لا استطيع الكتابة عن التضحيات الرومانسية بحياة العديد من الشيوعيين والمناضلين، من دون تفاصيل وافية قد لا اتذكرها بتراجيديا كاملة، عن مسار قصة نضالٍ جماهيريٍ في مدينة البصرة كانت علامتها الحاسمة سقوط (شهيد) و(شهيدة) على أرض الشارع برصاص الشرطة.. ربما هذه العلامة قد أدركها النسيان بعد مرور أكثر من 60 عاما على حدوثها .
هذا هو الواقع أحسه بعمق وأدركه بمشاعر السعادة وأنا اتكبد تعب الغربة باحثاً عن موضوع ثوري كنتُ قد وجدتُ فيه نموذجاً من نماذج الشخصيات التي ضحت بحياتها، لكن من دون ان تستوي من الناحية الانسانية مع شهداء مناضلين آخرين كتب عنهم الكثير أو دخلوا في وثائق الشهداء العراقيين. ربما تكون كتابتي لا تزيد عن لمحة من لمحات التذكير المجرد عن شهيدين عانقا صعوبات عصرهما وزمانهما وأحداث لا تكفيها لمحات خاطفة في هذه المقالة، التي لا استطيع التعامل معها ،إلا تعاملا فوتوغرافيا ، مع ما بقي في ذاكرتي عن أفق تاريخي بعيد، يفرض عليّ تحريكها بمناسبة (يوم الشهيد الشيوعي) لأكتب عن بعض الشخصيات، التي قدمت نفسها في صفحة من صفحات قاموس النضال الوطني، لكنها تحتاج الى رعاية المؤرخين و الباحثين والدارسين، الراغبين في تصوير كل شكل من أشكال نضال الجماهير الشعبية في التاريخ العراقي.
هذا يلقي علي بمسئولية الكتابة عن ذكريات عشتها في مدينتي البصرة الفاضلة، لكن لا أدري لماذا انتابني شعور بضرورة الكتابة عن (شهيد وشهيدة) غرقا بنسيانٍ طويلٍ ربما فشلت الاوضاع الصعبة في الكتابة عنهما أو الإشارة الى تضحيتهما أو ادانة قاتليهما .
في ديسمبر 2014 عادتْ بي الذاكرة الى ايام بعيدة من ديسمبر عام 1953 يوم وجدتُ نفسي في مظاهرة طلابية لنصرة ومعاضدة حركة عمالية نضالية في مدينةٍ غنية بالنفط والنخيل والموانئ، تعاني من ضروب الظلم المسلط عليها من الحكام العراقيين، ومن قبل السلطات الاجنبية المهيمنة على مقدراتها الاقتصادية ومنها شركة نفط البصرة، التي اختصرتْ وجودها في هذه المدينة بأن تسحب من أعماق ارضها أغنى الثروات المعروفة في العصر الحديث.. كانت صورتها الدائمة بالوجود حول آبار النفط وموانئ تصديره قائمة على ترسيخ الظلم والاستغلال على العراقيين العاملين في مختلف اجهزتها .
من دون ريب كان اضراب عمال شركة نفط البصرة أضخم حدث في في التاريخ العراقي المعاصر ، بل يمكن القول أن أثر الاضراب كان ابعد من ذلك، حيث حمل زخما هائلا من التأثير على جميع الشركات النفطية الاحتكارية العالمية وعلى العواصم الرئيسية في العالم الغربي. كان مدراء شركات النفط في لندن ونيويورك وامستردام يتابعون أخبار الاضراب والمضربين، وهم ينفثون دخان السيجار في مكاتبهم الفخمة مع آهاتهم .يراقبون هذا الحدث وتطوراته ،سواء داخل مكاتب شركة نفط البصرة وشركة نفط العراق أو في الاحتكارات النفطية العالمية ،كلها، فقد انطلق هذا الاضراب بقيادة عاملين من خلفيات معرفية يسارية وشيوعية موجه بالأساس ضد العقل الرأسمالي الاحتكاري ،الذي كان قد أجهز قبل ذلك بمدة وجيزة على قرار ايراني وطني بتأميم النفط حين ظهر اتجاه وطني جديد قاده الدكتور محمد مصدق رئيس الوزراء ، لكن اصابه الفشل بسبب عدم اعتماده على منهجية واسعة في التعبئة الشعبية ،ومن دون استثمار وعي القوى اليسارية الايرانية بقيادة حزب تودة.
حين استيقظتُ صباح السابع عشر من شهر كانون أول 1953 اسرعتُ بالخروج من بيتي في الساعة التاسعة ، من دون افطار. كان عليّ أن التقي مع عضو اللجنة المحلية حمدي ايوب العاني الذي زودني في الحال بعدد من منشورات اللجنة المحلية الداعية الى استمرار الاضراب العام في المدارس والاسواق والمعامل الكبيرة والصغيرة وفي مصلحة نقل الركاب لمناصرة حقوق العمال المضربين. كان الاضراب العام قد بدا قبل يومين وقد حظى بتأييد شعبي واسع.
في الساعة العاشرة انتشر بيان اللجنة المحلية المطبوع بالرونيو وتم توزيعه ،بصورة علنية، بين الطلاب وفي أسواق منطقة العشار كافة وفي منطقة المعقل ورصيف الميناء. استطاع طلاب التنظيم الحزبي تحقيق النجاح السريع بتجاوز السياج الحديدي ،الذي فرضته أجهزة الامن السرية والشرطة لتطويق الاضراب ودعاته ومناصريه. سرتْ بعد التوزيع الأفكار التنويرية التي حملها بيان الحزب الشيوعي .
احساساتي كانت غريبة في ساعة توجهي مع عدد من طلاب ثانوية البصرة الى مكان تجمع عمال النفط في منطقة (الجبيلة). شاهدتُ أعداداً من طلاب اعدادية الصناعة وهم قادمون مشياً على الاقدام من جهة المعقل بعد ان منعت سلطة الأمن تحرك السيارات في شوارع تلك المنطقة. التئم اجتماع جماهيري سلمي كبير امام الباب الرئيسي لمقر شركة نفط البصرة. لأول مرة وجدتُ العمال محاطين بعددٍ كبيرٍ من النساء، زوجات العمال وامهاتهم. كنّ مشاركات بالهتاف وبالدعوة الى استمرار الاضراب الى حين تلبية مطالب المضربين. في تلك اللحظة تمنيتُ لو أن والدتي تشارك في هذا التجمع، إلاّ أنها كانت قد سافرتْ الى بغداد قبل يومين حاملة بريداً حزبياً من اللجنة المحلية الى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في بغداد.
ارتفع صوت العمال المضربين ومؤيديهم من الطلاب والنساء بالاحتجاج حين بدأت قوى الشرطة المسلحة ، بما فيها ا(لشرطة السيارة) تقترب لتطويق المتجمهرين. بدا لي أن هذا الاقتراب والتطويق يجريان وفق خطة عسكرية أعدت لهذا الغرض . السيارات المصفحة بالرشاشات تأخذ مواقع معينة ، بينما يتخذ رجال الشرطة أماكن مختلفة .
العمال بدأوا اضرابهم سلميا وما زال سلميا.. الطلاب أيدوا مطالب العمال بصورة سلمية .. الجماهير الشعبية دخلت إلى الاضراب العام سلميا .. فلماذا تستعد الحكومة (عسكريا)..؟ كان ذلك المنظر ينذر أن وسائلها في استخدام العنف قادمة لا محالة. كنتُ أرى ضباط الشرطة الكبار بالنجوم والتيجان المفروشة على أكتافهم يأخذون أماكنهم، أيضا، لقيادة الهجوم المعد. لم أكن اهتف في تلك اللحظات ، ولم اكن أردد الهتافات مع الهاتفين. كان رأسي يراقب الاستعداد العسكري بشيء من الخوف . كما كنت منشغلاً بمراقبة حركة الرفاق الشيوعيين ومنهم (هاشم طعمة) الذي خمنتُ أنه القائد الميداني في هذا التجمع. كان كثير الحركة والتنقل من موقع إلى آخر .. شاب متحمس من صلب الطبقة العاملة الواعية.. يراقب العمال مثلما يراقب حركة مدراء الشركة الاحتكارية. سرعان ما شاهدتُ، في الجهة الاخرى، الشيوعي (شاكر علوان القيسي) العامل في حقول شركة النفط بالزبير وهو عضو الوفد المفاوض خلال الايام الماضية. رغم أنه كان عاملا في الشركة، لكنه يجيد اللغة الانكليزية، قراءة وتكلما. هناك في جهة ثالثة شاهدتُ (حسن المظفر) وهو من اعضاء الحزب الوطني الديمقراطي، بل هو مسئول العمال في الحزب ، لكنه كان يسارياً في أفكاره وطروحاته .. يحتفظ بعلاقات طيبة مع الشيوعيين في محلة العشار أولاً ، من ثم في حي الفيصيلية، الذي تم حديثا بناء بعض الوحدات السكنية فيه. هذا العامل غير الشيوعي كان عنصرا نشيطا في الاضراب الذي قاده الشيوعيون.. أولهم الشيوعي الصلد سلام عادل، الذي اصبح ،في تلك الايام ، جزءاً من ذواتنا نحن الشيوعيين في مدينة البصرة.
كان هؤلاء جميعا يركزون انظارهم على حركة المستر (تولمان) مدير (المكينة) الواقف خلف الأسلاك الشائكة المحيطة بمبنى الشركة. في (المكينة) كان المقر الأكبر لموجودات شركة نفط البصرة بالجبيلة، وهو مكان حجمه أكبر من مساحة ملعبين من ملاعب كرة القدم. يضم اغلبية موظفي ومهندسي الشركة وأغلب أدواتها ومكائنها العملاقة. يطلقون على هذا المكان أسم (المكينة) ربما هذا الاسم تحوير لأسم (الماكنة) حيث من هنا تنطلق جميع خطط وفعاليات الشركة في عمليات التنقيب والحفر وتحديد خرائط الحقول والآبار المنتجة.
لا أحد يدري من هو القائد الميداني الرئيسي في هذا التجمع الجماهيري.. من هو القائد الميداني لقوى الشركة الاحتكارية أو لقوى الشرطة المحتشدة بسلاحها..؟ متصرف اللواء (المحافظ) غير موجود في هذه اللحظة. مدير عام الشركة المستر (تيسو) غير موجود. مَنْ القائد إذاً..؟ تكاثرت الاسئلة حول موقف الجيش. كان وزير الداخلية سعيد قزاز قد وصل إلى البصرة على متن طائرة خاصة يوم 15 – 12 – 1953 وقد قيل أن حضوره الاساسي لغرض معالجة الاضراب . كان معه الوصي على عرش العراق الامير عبد الإله الذي نُشر عنه خبر مجيئه الى البصرة للراحة والاستجمام..!
قيل قبل يوم واحد أن مجلس الوزراء برئاسة فاضل الجمالي قد منح الاضراب والمضربين وادارة الشركة والسلطة المحلية وقتاً مناسباً يكفي للاطلاع على خطة الوزير سعيد قزاز لمعالجة الموقف . هذا ما قيل في الراديو الرسمي.
اثارت هذه التأملات في خاطري المزيد من الاسئلة وأنا اقطع طريقي بين الزحام للوصول الى المكان الذي يقف فيه (هاشم طعمة) الذي كنت اعتقد أنه المسئول الحزبي الأول عن هذا التجمع. فعلا وصلتُ إلى المكان ووضعتُ اسئلتي بين يديه. فوجئ بها وأبدى اعجابه عنها ، خاصة انه كان يعرف انني احد قادة الطلاب في هذا التجمع. نبهته إلى ما كان ليس منتبها اليه. لم يقدّر ان المكان محاط بالقوة السيارة ، قوة من الشرطة مدربة على القمع الوحشي في مثل هذه المناسبات. معنى ذلك أنه لن يكون هناك لقاء أو اجتماع أو مفاوضات تكميلية بين العمال ومسئولي الشركة ، كما قيل أمس. وجّه همته حالاً نحو مزيد من التماسك بين المتظاهرين. من المنتظر ، حتماً، أن توجّه الى العمال والطلاب وإلى جميع المتجمهرين ضربات تهديدية أولية او فعلية مباشرة الى صدور العمال . كلفني بالذهاب الى (شاكر علوان) الذي كان قد وصل المكان قبل قليل وهو ينتظر أن يُدعى من قبل وفد الشركة لمواصلة التفاوض. سرت اشاعة مفادها ان وفد الشركة المفاوض لا يحمل شيئا جديدا ، حتى ولو حضر، بعد أن صرح متصرف اللواء قبل يوم واحد (أن المفاوضات أغلقت أبوابها)..
لم استطع الوصول الى (شاكر علوان) ولم يتصل وفد الشركة بالقائد العمالي المفاوض. كان الرصاص اسرع من الجميع في التحرك من فوهات الرشاشات. كان الاطلاق الاول في الهواء ، موجها نحو السماء ، بينما توجّه بعضها الآخر نحو الارض أيضاً.
انحسرتْ الجموع الغفيرة سريعاً تلوذ بمكانٍ يحميها من الحمم الموجهة الى صدورها. رأيت عشرات الناس يتراكضون.. عشرات الناس يُجرحون.. عشرات الناس يُلقى القبض عليهم ويُودعون داخل سيارات الشرطة المعدة لهذا الغرض.
هناك دماءٌ على الأرض. ازدادت بقع الدماء. شاهدتُ عاملاً مضرجاً بدمائه. ربما مات فوراً. أو أنه سيموت بعد لحظات. جسده توقف عن الحركة . مات فعلاً بعد لحظات حين سمعتُ أحد العمال يصرخ باكياً: ( مات عبد الرضا دهش) كما قيل في اليوم التالي أن عبد الرضا دهش صار (شهيداً) حين رقن قيده في المستشفى الملكي بالبصرة بشهادة وفاة لم تخلو من التملق الى الشركة الاجنبية ومن سوء الاخلاق بتزكية الشرطة من الجريمة.
بعض الشرطة رفعوا امرأة طريحة على الأرض وهي في حالة نزف شديد . في اليوم التالي أيضاً، اعلنت سلطات المستشفى انها توفيت في المستشفى باسم (أم جبار) . قيل أنها أم العامل (جبار محمد) وقد وصفت في حينه انها (أول شهيدة) في مدينة البصرة.
اعتقلوا عددا من الوفد العمالي المفاوض لكن شاكر علوان تمكّن من الافلات من كمائن منصوبة في الجبيلة وما حولها.
صحيح ان التجمع الجماهيري واضراب العمال قبله لم يحققا سوى إثارة حقد الشركة النفطية البريطانية وعملائها من العراقيين، لكن الاضراب والمظاهرات حررت جماهير البصرة من الخوف المترسب في اعماق المجتمع. كما أنها عبّرت عن استعداد الجماهير لتقديم كل نوع من انواع التضحية بعد ان صنع النضال العراقي قبل اعوام قليلة وبالذات عام 1949 اسطورة شيوعية فذّة بنماذج من بطولةٍ نالتْ ، فوراً، اتصالها بالعالم كله ،حين استوى (فهد وحازم وصارم) ببطولة نادرة على أعواد المشانق مؤكدين أن التضحيات تضاعف الشيوعية وتنميها وتغذيها الى الابد.
شهيدٌ جديدٌ وشهيدةٌ جديدةٌ فرضا كرامة العمال في مدينة البصرة على التتر الأجانب وعلى أتباعهم من عراقيي السلطة والنظام القمعي في آن واحد. كما انطوى فعل الشهادة في مظاهرات الشارع على تعميق شعور التقدير والاحترام للحزب الشيوعي في مدينة البصرة ، الذي لم يتخلى عن اسناد نضال العمال والكادحين والدفاع عن حقوقهم المشروعة.
في ما بعد علمنا من خلال بيان رسمي أن الحكومة تمنع نفسها من اي انحناءة امام مطالب عمال النفط وقد لعب الوصي عبد الاله وسعيد قزاز دوراً في رفض كل اقتراح من مسئولي البصرة بتلبية بعض المطالب . أصرا على اعلان الاحكام العرفية في البصرة بعد اجتماع سريع تم في اليخت الملكي الراسي قبالة فندق شط العرب بالمعقل.
اصبح العقيد الركن احمد محمد يحي قائداً عسكرياً عاماً في منطقة البصرة . كان أول قراراته في بيان رسمي اذيع من اذاعة بغداد هو تعطيل الدراسة في المدارس الثانوية والمتوسطة في البصرة والعشار والمعقل والزبير والفاو. ثاني القرارات كان إغلاق صحيفة الحزب الوطني الديمقراطي والحكم على مدير تحريرها بالسجن عاما واحداً.
قُدّم عدد من عمال النفط والطلاب الى المجلس العرفي واصدرت بحقهم احكام بالسجن ومنهم أعضاء الحزب الشيوعي: (كريم الاسدي) و(جميل ابراهيم السالم) و(شاكر علوان القيسي) و(فالح يعقوب) وغيرهم كما صدرت احكام غيابية بحق الهاربين منهم هاشم طعمة
آخر قرار عسكري معادٍ لأبسط القيم الاجتماعية والانسانية هو قرار منع تشييع الشهيد والشهيدة خوفا من أن يكون عاملا محركا لمظاهرات جديدة رغم انحناءة إدارة الشركة وحكومة فاضل الجمالي ، باليوم الأخير من الاضراب، بالاستجابة لعدد من مطالب العمال المضربين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 14 – 2 - 2015