شهداء الحزب

في ذكرى الشهداء جمال وغسان عاكف* : لقطات من الذاكرة / مناضل عاكف

ما يقارب عشرين عاما قضيتها معهما منذ طفولتي قد تبدو مكتضة باحداث تفيض بها الذاكرة ولكن عشرينا اخرى تلتها، في انتظار ماض ما عاد بدونهما، لم تترك من تلك الاحداث في ذاكرتي الا القليل، ربما لتسارع السنين وما انجبته من احداث مؤلمة، أو لعل استشهادهما واحدا تلو الآخر قد دفع بتلك الاحداث لتغوص بعيدا في اعماق السنين، الى ما قبل الذاكرة، كي لا تثير أحزانا جديدة واستذكاراً لأحداث أخرى تلت اسشهادهما ولا تقل الماً عنه واسى.
ثمة احداث غير متكاملة وأطياف أحداث ولقطات متفرقة تكاد تلوح في الذاكرة تشير جميعها الى ما كان يجمعنا دوما عدا الاخوة والمعيشة تحت سقف واحد، وبالاخص مع جمال الاقرب لي سنا، قد يكون تقارب العمر ونشأتنا سوية، وقد يكون الحب الذي غرس فينا وترعرعنا عليه مذ كنا صغارا، او ربما تطلعاتنا وطموحاتنا المشتركة كشباب غالبا ما يريد من الحياة اكثر مما تمنحه له، ولكن شيئا آخر ربطني بهما وبكل عائلتي وبآخرين كثيرين بدا أقوى من غيره مع اقتراب الوباء الزاحف علينا جميعا، والإحساس بحتميته، لا مفر لنا منه ولا حيلة تجاهه، الوباء الذي تجلى باسماء عديدة، ربما نسينا معظمها، منها الغريب ومنها المعروف ومنها الجار القريب، ولكنها جميعا حملت وجها واحدا لجميع الأسماء، بقي عالقا في الذاكرة، هو وجه اللص والخائن والقاتل، وجه رجل الأمن الصدامي الذي دنس البراءة والنقاء والحب والاخوة.
كان عمري، الابن الاصغر والمدلل في العائلة، قد قارب العشرين وكان جمال يكبرني بسنتين ولعل ذلك ما جعل ارتباطي به وحبي له متميزا عن غيره رغم الخصومات والغيرة التي لا تخلو منها طفولة، قضينا معا كثيرا من اوقاتنا لدرجة اني تعلمت منه لغث «الراء» وبقي ملازما لي طيلة حياتي بعد ان تعلم هو نطقها الصحيح، لم يدعني يوما احس بغيرته بل بحنان من يرعى طفلا صغيرا رغم الفارق القليل في العمر، اذكر انه رابط مرتين عند فراشي: الأولى في المساء وقد اشتد الم في اسناني والثانية ليلا حين احس الرعب ينتابني من ذكر «ابو طبر» مع اعتقادي بأنه ما كان مرعوبا أقل مني ولم يكن قادرا في كلتا الحالتين ان يفعل شيئا سوى المواساة.
دخلنا السياسة اطفالا كما في الحياة، مجتمعين في امسية شتوية حول مدفأة «علاء الدين» نستمع لاخ اكبر يقرأ بصوت منخفض عن امور بدت مخيفة ويشوبها الغموض، ربما كانت عن تظاهرة أو حملة اعتقالات أو حدث آخر ذي نكهة مميزة عرفنا لاحقا بانها تسمى «السياسة»، لم نكن فيها عارفين، ولم تكن لنا «فنا للممكن» بل خيار بسيطا كالحب والصدق والوفاء لا بد منه لكل انسان «يعيش»، ولم تكن اطيافها بذلك التنوع المخيف الذي نراه اليوم، بل بيضاء سوداء، خيرا وشرا وليس لنا سوى ان نختار بينهما، فهل يصعب الخيار!
عندما حل الوباء بارضنا اصبحت كل هواجسنا تعبيرا عن اقترابه، نظرة وتخوفا وترقبا للمجهول، فدخل بيتنا كغيره من البيوت بشعا، مقيتا، بغيضا وجاثما كاي وباء يبتلى به الناس، وليس للاعوام مهما انقضت ان تمحو من الذاكرة تلك الايام المرعبة وبالاخص ذلك اليوم الاسود، قبل خمسة وثلاثين عاما، عندما انقض الوحوش على دارنا فأي إحساس راود جمال آنذاك ولماذا لم يغادر البيت؟ اهي روح التحدي والاصرار على مقاومة السفلة ورفض الهروب منهم سبيلا للحياة! هل اراد البقاء مع الوالدين في تلك اللحظات العصيبة! ام انه لم يختر شيئا بل سلم نفسه لمشيئة الاحداث ... كان جمال عاطفيا في طباعه، هادئا، واثقا بنفسه، احب الاغاني والغناء وقراءة الشعر.
اما غسان فكان متواضعا، جديا ومثابرا في كل شيء، كان بيننا الاكثر براءة وصدقا ولا اظنه كذب ولو مرة في حياته، وربما هذه الخصال هي ما جعلته مبدئيا لأبعد الحدود، لا يقبل بالباطل ويصر على الحق والحقيقة حتى في الامور البسيطة. اذكر يوما كنا في سفرة عائلية الى كردستان مع الوالد والوالدة وكان غسان يقود السيارة وكان ابي يوجهه بملاحظته باستمرار عند كل منعطف خطر (وما اكثرها هناك)، وفي الطريق الجبلي الملتوي والمخيف المؤدي الى مدينة شقلاوة اخذ الوالد يقرعه على حركة قام بها فانزعج غسان بشدة لاحساسه بانه غير مذنب والموقف غير مناسب لتوجيه الملاحظات وبدأ يجادل ابي بصوت عال نظرا لضعف سمعه (والوالدة تصرخ من الخلف باننا سنقع في الوادي بسبب شجاركم) فاوقف غسان السيارة في وسط الجبل وخرج من السيارة وقال للوالد تفضل سوق السيارة بنفسك.
ها هي السنون قد مضت وتراكمت منذ رحيلهما في اكثر من ثلاثة عقود وها هو الطاغية قد هوى ومعه زال الوباء، ولكن هواجسنا ما زالت تتطلع خلسة لماض بعيد، لطفولة وشباب، علّه يعود إلينا ولو في رثاء، وأخرى لماض قريب خشية أن ننسى مآسيه وينساه القادمون من بعدنا، ولكن سؤالا سيظل يراودنا مدى الحياة: هل عدنا حقا إلى ذات الوطن الذي غادرناه مكرهين!
ذكرياتي مع الشهدين غسان وجمال عاكف
مروان عاكف
كنت مع الشهيدين غسان وجمال في منطقة كردستان اثناء تواجدنا هناك في صفوف الانصار الشيوعيين (البيشمركة)، وكنا في مناطق متفرقة ومواقع مختلفة، فالشهيد الدكتور غسان كان في منطقة بهدينان، وانا والشهيد جمال كنا في مكانين متقادمين في منطقة سوران، وقد التقيت بهم مرات عديدة اثناء تجوالنا في هذه المناطق، وكانت هذه في الفترة مابين 1980 - 1983 .
اخترت الحديث عنهما في هذه الفترة بالذات لانها كانت تختلف كثيرا عن الفترات الاخرى من سنوات العمر، تختلف بالظروف الجديدة التي مررنا بها بعد خروجنا من العراق وبصعوباتها وخطورتها، فبالاضافة الى شعوري بهما كأخوة لي كنت احسهما في نفس الوقت كرفاق ومقاتلين معي وكان الاحساس الثاني هو الذي يطغي ولايفرق عن احساسي وشعوري بالرفاق الآخرين، وذلك نظرا للروح الرفاقية والشيوعية التي كان يتحلى بها المقاتلون الانصار والتي كانت تطغي على كل العلاقات والروابط الاخرى فكنا خليطا من كل الاطياف والمذاهب المختلفة وهذا ما اثار اعجاب ?لمقاتلين البيشمركة من الاحزاب الكردية الاخرى واعجاب ابناء القرى الكردية التي كنا نتجول فيها، هذه العلاقات النبيلة كانت هي العامل الاساس للصمود وتذليل كل الصعوبات ومشقة الحياة في هذه المناطق الوعرة والخطرة في نفس الوقت .
لقد ترك استشهاد الرفيقين حزنا كبيرا لدى رفاقهم الذين عايشوهم ولدى ابناء القرى الذين عرفوهم، فقليل من لا يعرف (الدكتور عادل) الشهيد غسان عاكف الذي تجول في اغلب قرى منطقة بهدينان في كردستان العراق، في سهل الموصل ومناطق دهوك وزاخو والعمادية، واعطى كثيرا لابناء هذه المناطق في المجالات كافة وخاصة المجال الانساني (الطبي)، وانقذ حياة العديد من الناس واسترد لهم الحياة من جديد وذلك من خلال عمله الدؤوب والصادق في معالجة المرضى وايصال الدواء لهم، في مناطق جبلية وعرة وقرى فقيرة كان يغطيها الحرمان والفقر والجوع.
اما عن الشهيد جمال عاكف (ابو فيروز) فقد عرفه رفاقه والفلاحون من ابناء قرى كردستان في مناطق حصاروست وراوندوز، عرفوه بشجاعته الكبيرة وجرأته العالية اثناء المعارك التي اسهم فيها ونشاطه في تحرك لتقديم الاكثر في مجال العمل الانصاري واكتساب الخبرة من الرفاق الذين سبقوه في هذا المجال.
وكان مايزال شابا في مطلع العشرينيات من العمر، وجسد ذلك في استشهاده في عملية بطولية في منطقة راوندوز، اذ ادهش العدو هو ورفاقه الابطال على مقدرتهم في الوصول الى هذه المنطقة الوعرة حتى جسد في استشهاده هو ورفيقه (شمال) ملحمة بطولية رائعة .
ــــــــــــــــــــــــ
*مجلة «الشرارة» العدد96 كانون الثاني 2015