شهداء الحزب

الشهيد نزار ناجي يوسف* .. علو في الحياة وفي الممات / نوال ناجي يوسف

فتى مات بين الضرب والطعن ميتة
تقوم مقام النصر لو فاته النصر
وقد كان فوت الموت سهلا فرده
أليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ونفس تخاف العار حتى كأنه
الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
المتنبي
من اين ابدأ بالحديث عن أبي ليلى، فتى الفتيان، الفتى الذي لا يعوض ولم يعوض، النسر الذي لم ينحن لاي سلطة ولم يتغاض او يسكت يوما عن ظلم او حيف يحيق بالآخرين، ايا كان الآخرون. والذي كان مسكونا بالحلم الماركسي في تحقيق العدل بين الناس. هل ابتدئ بمواقفه الشجاعة والمبدئية وإللا ذاتية، وتجربته العظيمة في مقاومة الدكتاتورية من جهة، وفضح مظاهر الشللية والتكتل والسياسات اليمينية من جهة أخرى، ام احكي عن سلوكه المترفع عن الصغائر وسمو أخلاقه ونبله وتفانيه في خدمة الحزب والرفاق والأصدقاء، او ادخل مباشرة إلى قصة استشهاده البطولي والعوامل المباشرة وغير المباشرة التي أدت إلى اغتياله مع كوكبة من رفاقه البواسل.
ولد الشهيد عام (1944) في مدينة العمارة، اذ كان والدي ناجي يوسف حينذاك مديرا للمعارف فيها، ويتذكر أهالي المدينة الفترة المتميزة لإدارته تلك، للإنجازات التي حققها على صعيد العملية التربوية .الا ان جزاءه كان كجزاء سنمار، اذ نقل كمدرس الى بغداد، كعقوبة على مواقفه الوطنية ودعمه وتقاربه الفكري والسياسي مع الشخصية الوطنية المعروفة سعد صالح ،والذي كان معارضا للحكومات الرجعية ويمتلك رصيدا شعبيا كبيرا .هذا التلاعب بأرزاق الناس دفع والدي لدراسة الحقوق مساء ليمتلك حرية اتخاذ مواقفه السياسية بعيدا عن سيطرة الدولة.
تأثر نزار بالفكر اليساري التقدمي منذ نعومة أظفاره، ولا عجب، فقد كان الكثير من شخصيات الحركة الوطنية تلتقي في بيتنا بحكم علاقتها بوالدي والذي كما أسلفت كان احد دعاة التحديث والمدنية في العراق ومن مثقفيه الأوائل، وكان أسلوبه في تربية أولاده صورة عن فكره التقدمي النير .ويتذكر الكثير من المثقفين والشيوعيين اللقاءات الثقافية التي كانت تعقد في دارنا او في دار جارنا الشخصية التقدمية الكبيرة محمد شرارة في الكرادة الشرقية نهاية أربعينيات القرن الماضي.
كان الشهيد حسين الرضي (سلام عادل) من ضمن الذين اثروا بعمق في تطور نزار الفكري .اضافة الى تأثره باندفاع وصلابة وإصرار شقيقتنا ثمينة زوجة (سلام عادل) (أطال الله عمرها) على النضال في صفوف الحزب، متحدية كل العوامل المعيقة.
انتمى نزار بسن مبكرة الى اتحاد الطلبة العام، ثم رشح للحزب، وهنا برزت قابلياته التنظيمية وهو لا يزال في المرحلة الإعدادية، وكان يبتكر طرقا جديدة للتواصل مع الشباب، واذكر انه اقنع والدي ان يشتري له (موتورسايكل)، ليتمكن من توزيع بيانات ورسائل الحزب على الجماهير بأقصى سرعة.
وفي صبيحة انقلاب شباط الأسود 1963، التحق بالمقاومة في إعدادية الكاظمية المواجهة لجسر الأئمة، وظل يقاتل الانقلابيين الى ان تقدمت الدبابات تحمل صور الزعيم عبد الكريم القاسم للتمويه ثم ابتدأت بقصف المقاومين واستشهد بعض الرفاق ومنهم الشهيد سعيد متروك الذي حقق ملحمة بطولية قبل استشهاده .واستطاع بعض الرفاق الهرب ومنهم نزار اذ اختفى في بيت احد اقاربنا في الكاظمية.
تم اعتقال رجال العائلة وعلى رأسهم والدي وبقيت والدتي وحدها تنظم أمور المختفين والمعتقلين من أفراد الاسرة من جهة، وتستقصي ملهوفة عن مصير الصغير علي ابن شقيقتي ام ايمان والشهيد سلام عادل، والذي بقينا نجهل مصيره الى ان استطاعت مجموعة من النسوة الباسلات تدبير عملية تهريبه من قصر النهاية وإيصاله الى بيت جده في النجف المرحوم السيد احمد الموسوي والذي أسرع بإرساله الينا في بغداد.
بعد إطلاق سراح والدي بذل جهده لتهريب نزار الى لبنان بجواز سفر مزيف ومن هناك استطاع الوصول الى الاتحاد السوفيتي وفيه ابتدأت مرحلة جديدة من الكفاح في صفوف الحزب .فبالإضافة الى تعدد مهامه الحزبية وكونه عضوا في لجنة الدفاع عن الشعب العراقي، انتخب رئيسا لرابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي وكان له دور بارز في رعاية الطلبة وحل مشاكلهم .وقد اسهم ( ابو ليلى) ايضا في الكثير من المؤتمرات الطلابية والحزبية.
عاد الشهيد الى العراق فور تخرجه تنفيذا لقرار الحزب بالعودة للوطن عام 1971 وباشر عمله الحزبي السري. ورغم ان والدي كان وقتها نقيبا للمحامين العراقيين لكن هذا لم يمنعه من القتال بشراسة ضد البعث المقبور. فيما بعد ترك عمله كمهندس في الشركة العامة للصناعات الهندسية وتفرغ تماما للعمل الحزبي.
في المؤتمر الثالث للحزب (1976) الذي عقد في بغداد تحت رقابة الأجهزة الأمنية لحزب البعث الحليف، كان نزار احد المندوبين الذين حضروا المؤتمر، وكان اول من تصدى بقوة وصراحة بخصوص الطبيعة الطبقية للسلطة ، وكرر في مداخلاته الثلاث بخصوص هذه الفقرة بأن طبيعة البعث طبيعة فاشية معادية للحزب فكريا ولا يمكن التعويل عليها مطلقا، الآمر الذي يتطلب تحليلا أكثر دقة وواقعية لكي لا يقع الحزب في اخطاء عند التعامل مع البعث.
اضطر الحزب الى إرسال نزار الى براغ نهاية (1977) عندما تهددت حياته بالتصفية من نظام البعث نتيجة موقفه الجريء والصلب في المؤتمر الثالث .وهناك التحق بعمله في مجلة السلم والاشتراكية، وكان ابو ليلى يقضي ليله ونهاره في رعاية الرفاق الفارين من الاعتقالات والتعذيب بعد انهيار الجبهة المشؤومة في العراق.
وفي بداية الثمانينات أصر الشهيد بالرغم من ظروفه الصحية ان يلتحق بحركة الانصار تاركا عمله وعائلته في الخارج معرضا حياته للمخاطر، ليناضل مع رفاقه القادمين من كل حدب وصوب لمقارعة النظام الصدامي الدكتاتوري .
المئات من المناضلين والكوادر ذوي الخبرة على جميع الأصعدة السياسية منها أو المهنية، شباب وشابات بعمر الزهور، كهول أصحاء او مرضى، قدموا إلى كردستان بقلوب شجاعة حالمة بمستقبل افضل للشعب المنكوب بزمرة صدام، وقاتلوها تحت راية الحزب .
استشهد (ابو ليلى) مع د .عادل وملازم حسان في معركة بشت أشان الثانية، ولقد سجلت شقيقتي ام ايمان حديثا للرفيق كانة بي الذي كان يقاتل معهم، اذ شرح بالتفصيل قصة استشهادهم البطولية.
في احدى رسائل (ابو ليلى) الى (ام ايمان)، نشرت في مجلة رسالة العراق للحزب الشيوعي العراقي الصادرة في تشرين الثاني (3 198) بعد استشهاده، يقول نزار: خلال العام والنصف الذي مرعلي هنا ...خلال الاف الكيلومترات التي قطعتها قدماي ...اشعر بنفسي اقوى واصلب وأغزر واكثر سعادة بالنضال ومواصلة الطريق وبالتعلم والتلمذة ...شيء يزيدني قوة هو الحب اللا محدود للرفاق المحيطين بي والذين اشعر بانني مشدود معهم في معمعان النضال ... ناسيا نفسي حتى بين الرصاص ودوي القنابل ...أمام شبابهم الباسل الرائع ممزوجا بعرقهم وندائهم لي (شايبن)تغدو اصعب الصعاب ميدانا للاقتحام والتحدي ...اجدني اقوى ...حتى العلل الصحية اصبحت تهرب امام قوة الإرادة وامام النزوع اللا محدود للعمل ...انني الان رغم عضويتي في مكتب قاطع بهدينان لقوات انصارنا المسلحة ...ألا أنني ألححت
على النزول مع المفارز القتالية... وقبل شهر عدت من جولة مع انصارنا في الوحدات دامت شهرين ...ولأول مرة اواجه العدو بالرصاص وجها لوجه، وتتكرر التجربة وننتصر في المعارك ...واشعر ان حب الرفاق يزداد والبعد المتواضع في العلاقة معهم يكبر."
وقد نشرت صحيفة رسالة العراق التي كان يصدرها الحزب اثناء حرب الأنصار وفي صفحة صوت الطلبة في رثاء الشهيد نزار: وجه طلابي خالد الشهيد نزار ناجي يوسف. لقد عرف الشهيد (ابو ليلى) كأحد الكوادر الاتحادية التي شغلت العديد من المواقع القيادية والشبابية داخل وخارج الوطن سنوات عديدة، مكرسا حياته لخوض النضال الوطني الديمقراطي .لقد واجه الشهيد ابو ليلى شتى مصاعب النضال بروح الثبات والتصميم وبتضحية وإيثار عاليين والذي ميز سلوكه وهو يخوض معترك النضال ضد أنظمة الحكم الرجعية والدكتاتورية والتحق بصفوف الأنصار البواسل ولقد كان رمزا ومناضلا، طالبا ومعلما، امينا وسكرتيرا عاما للجنة التنسيق الطلابية ...شهيدا اثبت في سنوات نضاله شواهد خالدة، وخلد في استشهاده مزيدا من الدلالات والمؤشرات، ولا نستزيد، فالحقائق تتحدث عن نفسها دائما".
ونشر في تأبينه ضمن كراس (بشت أشان ينبوع في الوطن) الذي أصدره الحزب عام (1984):
"كان الشهيد طاقة من العمل وباقة من الفرح، لبى نداء شعبه وحزبه وضميره الشيوعي ...فسار في المقدمة ...نصيرا وكادرا وإعلاميا دؤوبا. أسهم وقاد، خلال وجوده في كردستان، مهمات تنظيمية وقتالية وإعلامية وفنية عديدة فكان متفهما للطموح وتجاوز الثغرات والصعوبات بلوغا لما هو أفضل".
لم يكن (ابو ليلى) قد تجاوز التسعة وثلاثين عاما عند استشهاده الا انه ومنذ نعومة اظفاره كان مشروعا دائما للشهادة بروحه الوثابة وقلبه الجسور وتحديه الصعاب في ميادين النضال.
ــــــــــــــــــــــــ
*مجلة "الشرارة" العدد95 كانون الأول 2014