شهداء الحزب

وفاء لذكرى الشهيد جلال يونان جبو عم مرقس / كمال يلدو

حينما بدأت شرايين قلبه تحمل نبض الشباب المتدفق بالأماني والأحلام، وصار المستقبل عنده مرسوما بين هلالين (وطن حر وشعب سعيد)، كان ـ حزب البعث ـ يعد العدة لمشاريع جهنمية تتراوح، بين الحروب والقتل والدمار، بين المحاربة والتضييق وبناء سجون جديدة، لا بل تحويل العراق الى سجن عملاق ومقبرة جماعية كبرى. ذاك كان تأريخ الدكتاتورية وذاك كان إرثها.
ولد الشهيد جلال في مدينة (تلّسقف) التابعة لمحافظة نينوى عام ١٩٥٥، وما كاد يبلغ السادسة من عمره حتى انتقلت عائلته الى محطة ( تي وان T1) احدى محطات ضخ النفط للأنبوب المار بسوريا في محافظة الأنبار، إذ كان والده عاملا في شركة نفط العراق.
بدأ مشواره المدرسي في الأبتدائية والمتوسطة وصفين من الأعدادية في منطقة (T1)، لكنه أكمل الصف السادس الثانوي في بغداد، إذ التحق بأخيه الأكبر (صبري) الذي كان يدرس في الجامعة المستنصرية، وبعد تخرجه من الثانوية درس في (معهد التكنلوجيا ـ الزعفرانية عام ١٩٧٥) وعندما تخرج منه ، أدى الخدمة الألزامية. ثم وجد نفسـه بعيدا جدا عن التوظيف الحكومي بعد أن تسّرح من الخدمة العسكرية، فأضطر للعمل كسائق تكسي.
أظهر ميلا للأفكار الوطنية والثورية منذ سني صباه الأولى، وكان أثناء دراسته الثانوية في السبعينيات، في قمة نشاطه، قام مع مجموعة من زملائه بإعادة تشكيل فرع (اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية) في اعداديته بـ (T1). وحينما انتقل لبغداد عمل بكل صبر وتفان لخدمة الأهداف الوطنية التي آمن بها. بعد الهجمة الشرسة التي قادتها اجهزة البعث والمخابرات عام ١٩٧٨ لم ينثن للصعوبات، فواصل نضاله وعمله الى ان تم اختطافه في ٣٠ تشرين أول ١٩٨٠ من قبل اجهزة الأمن والمخابرات من الشارع وهو في سيارته.
تتذكره السيدة سهام مرقس زوجة شقيقه صبري بالقول:
كان أول عهدي بالشهيد (جلال) في العام ١٩٧٥ حينما اقترنتُ بشقيقه، وتقاسمنا البيت مع اسرته. يومها كان طالبا في المعهد، وعرفته انسانا نبيلا ومحبا ومندفعا بكل حيوية الشباب، كان اكثر من أخ لي، بل اضحى الصديق الودود. لقد ساعدني بتخفيف حمل مسؤوليات البيت، خاصة وأني كنت اعمل موظفة آنذاك وقد رزقنا انا وشقيقه صبري ببنتين جميلتين (صمود و لهيب)، إذ كان يلاعبهما اثناء غيابي، وغالبا ما يأخذهما الى مدينة الألعاب، وبالأضافة لذلك فقد كان يذهب للتسوق، ولم يتوانَ حتى عن (طبخ الطعام) للعائلة اثناء انشغالي بالوظيفة. ولأنه كان متعلقا ببناتي، فكانت والدت? (المرحومة بريجو) عادة ما توجه السؤال له: لماذا لا تتزوج وتنجب لنا أميرات مثل شقيقك ؟ فيرد عليها بالقول مبتسماً، أنا متزوج قضيتي، وهذا يكفي!
انه لأمر محزن حقا أن تنطفئ كل تلك الحيوية والشباب نتيجة القهر والأرهاب والعقليات المتخلفة التي كانت سيدة الموقف لدى الحكام. لم تمض حياتنا بسهولة اثناء حكم الدكتاتورية، وخاصة بعدما اختطفوه وأنقطعت كل اخباره عنّا، ولم نكن نتجرأ حتى بالسؤال عنه، فقد كان النظام يتبع اسلوبا اجراميا مع الكل. هذه الحالة دفعتنا لنقل سكننا اكثر من مرة هربا من ملاحقات الأمن، فمن البلديات الى المشتل ثم الدورة وبعدها الى دور الضباط.
لا استطيع أن اصف فرحتنا بسقوط الدكتاتورية، لكن همّاً جديداً طرح نفسه علينا وهو البحث عن مصير "المُغَيّب جلال" ، وكانت الضربة القاصمة حينما اعلن الحزب الشيوعي العراقي عن حصوله على قوائم بأسماء المناضلين الذين اعدمتهم الدكتاتورية عام ١٩٨٤، وقامت بدفنهم في ما اسمتها ( مقبرة الخونة في أبي غريب ـ المقابر الجماعية) وتبين بأن "جلال" كان من بين الضحايا، فذهب شقيقه صبري الى تلك المقابر وأمضى أربعة ايام في البحث (مع مئات الناس الذين كانوا ينبشون الأرض بحثا عن أحبتهم)، مواصلا الليل بالنهار علّه يعثر على اية اشارة ?رفات الشهيد، لكنه عاد بعدها خالي الوفاض، ولم يمض كثير من الوقت حتى فارق هو الآخر الحياة (٢٠٠٦) مثخناً بالألم والحسرة والمعاناة بعدما كانت والدته قد سبقته للرحيل ايضا (١٩٩٠) شاربين المرارة من الكأس ذاتها!
اما السيد باسم روفائيل، إبن عم الشهيد جلال فيقول:
ما أقسى الزمن وما أوجع ضرباته. ويوميا اتساءل: كيف يمكن ان يكون الأعدام والقتل والتعذيب ومحو اي أثر للمقابر، ثمنا لأعتناق فكر سياسي ؟! كيف يمكن ان يعاقب الناس بهذه الطريقة الوحشية، وكيف يمكن لبلداننا ان تتطور وتزهو وتلتحق بركب الأمم الأخرى إن لم يكن فيها فسحة من الديمقراطية والحوار والأختلاف والأتفاق ؟ اي عقلية همجية سار عليها اولئك الحكام، ولا عجب، فجريمة البعث لم تقتصر على (جلال) بل تعدتها لتشمل ملايين "الجلالات" ولتطول كل الشعب ، ليس في زمن حكمهم فقط، بل لغاية هذا اليوم ايضا.
وبقدر ما افتخر بإستشهاد ابن عمي جلال، وأعتبر ذلك وساماً لمدينتنا الحلوة (تلّسقف) وقنديلاً ينير دروب كل الطامحين لغد مشرق لهذا الوطن الجميل، إلا ان الماً آخر يعتصر صدري وهو وضع العراق اليوم، وحال مكوناته الأصيلة التي صارت ضحية الأرهاب والعقليات المتخلفة، وها نحن اليوم نعيش (نازحين) في وطننا بعدما احتلت داعش مدينتنا، إلا ان باباً رحبا قد فتحه لنا اهلنا وأحبتنا ورفاقنا الأعزاء في مدينة المناضل توما توماس، القوش الحبيبة وعسى ان يكون ليل انتظارنا قصيراً.
اما السيد رزاق نعمو قريب الشهيد فيتذكره بالقول:
لقد جمعتنا المناسبات العائلية في طفولتنا، وبعدما انتقل الشهيد الى بغداد توطدت تلك الوشائج. كان انساناً طيباً، و يتحلى بأخلاق سامية، ويمتاز بالنزاهة والصراحة . وفي كل جلساتنا الصداقية كان شخصية متميزة بمرحه وكياسته. لقد حزنت كثيراً لرحيله، وحزنت اكثر كلما تذكرت العذابات التي مرّت عليه بيد القتلة، انه منظر صعب جدا. يبقى استشهاد جلال خسارة كبيرة لنا وللوطن.
الذكر الطيب للشهيد جلال يونان والخزي لقتلته
المواساة لعائلته الكريمة وأهله وأصدقائه ومحبيه