شهداء الحزب

خليل ابو الهوب ..الفتى الاسمر الذي احتضنه الشيوعيون / منعم جابر

قبل سنوات كتبت عن هذا الانسان الرائع بقيمه وتواضعه وسلوكه الانساني الكبير، كتبت عن خليل ابو الهوب الذي كان صورة رائعة عن العراقي الشهم الذي قدم حياته قربانا من اجل الفقراء والكادحين من ابناء شعبه ومع هذا وجدت نفسي مشدودا لان اكتب ثانية عن من ارتبط بالحركة الوطنية وكان احد ابناء الحزب الشيوعي العراقي في ذكرى احتفالية الحزب بميلاده الثمانين لان هذه المناسبة الغالية لابد لها من ان تنصف ابناء الحزب وتستذكر مواقفهم وعطاءهم وتضحياتهم. وابو الهوب هذا كان كريما في حياته واكرم في استشهاده الامر الذي يتطلب منا نحن الاحياء استذكار هكذا قامات كبيرة ورجال قلما انجبت الامم اشباههم، وسأحاول في موضوعي هذا استذكار احداث جديدة جمعتها من خلال لقاءاتي الشخصية وحكايات قرأتها من مصادر ثقاة، من رجال الصحافة والاعلام.
دخل السجن قاتلا وخرج شيوعياً!

ولد خليل ابراهيم العبيدي عام 1920 في محلة السور في بغداد "بجانب منطقة الفضل" من عائلة فقيرة وبدأت ملامح رجولته وشجاعته تظهر مبكرا ولكنه كان هادئا ومتواضعاً محبا للخير لا يميل للاعتداء على الآخرين، ينصر الفقراء والكادحين ويدافع عنهم ويساعدهم ماديا وقد حاول رجال العهد البائد استغلال شجاعته حيث كان قريبا من خليل كنه في انتخابات 1947 البرلمانية وفي عام 1948 اساء له احدهم "حسداً" فما كان من خليل إلا ان قتله في الحال وتم الحكم عليه لمدة خمس سنوات! عاش ابو الهوب في سجن بغداد المركزي مع السجناء العاديين وكانت هناك قاعة خاصة بالسياسيين "الشيوعيين" وكانت ادارة السجن تدفع بالسجناء العاديين للاعتداء على الشيوعيين والاساءة اليهم، ومن هؤلاء السجناء محمود قرداش "احد اشقيائية ايام زمان" فوجد ابو الهوب ان هذا الاعتداء غير مقبول وان اخلاق الشيوعيين لا تستوجب هكذا سلوكاً ضدهم! هنا تصدى خليل ابو الهوب لهذا الشقي المعتدي ولقنه درسا قاسيا جعل ادارة السجن تتخذ منه موقفا عدوانيا فمارست ضده انواع التعذيب "الفلقة وتكسير العصي على ظهره والحجّر" وبعدها تم نقله الى سجن الكوت وهناك التقى الرفيق الخالد فهد والرفاق قادة الحزب الاخرين فتطورت علاقته وكذلك العناية به. وخلال هذه السنوات التي قضاها في السجن التقى بعض الرفاق منهم المحامي خلوق امين زكي ومحي ابو عطا وجعفر ابو العيس وغيرهم كل هؤلاء ساهموا بأحتضان "ابو سرحان" والعمل على اعادة بنائه واعادته الى مجتمعه بشكل جديد وبروحية ملتزمة وقيم اضافة الى قيمه الكثيرة وتحول هذا الشقي الشرس الى انسان من طراز جديد ونموذجي اثار اعجاب وتعجب من شاهده بعد خروجه من السجن.

14 تموز.. الثورة التي قدمت ابنها ابو الهوب

وتطورت علاقات هذا الفتى الشجاع مع الشيوعيين واخذ منهم الكثير وتوطدت علاقته مع حكمان فارس احد قياديي الحزب في ذاك الزمان، وجاءت ثورة 14 تموز 1958 فكان ابو الهوب ابنا بارا لها وصار احد رجال منظمة انصار السلام وشارك في مؤتمر عالمي للسلام في موسكو عام 1959 واصبح رئيسا لنقابة السواقين. وفعلا بدأ الشارع العراقي يموج بالصراعات والخلافات السياسية بين انصار ثورة 14 تموز من الشيوعيين والديمقراطيين وبين رجال العهد البائد والقوى القومية والرجعية وانصارهم. وكان المد الثوري قد وضع الجميع امام مسؤولياتهم التاريخية لكن البعض وجد في اسلوب الاغتيالات والقتل طريقا لتوجهاته المخربة مما اخر المسيرة الديمقاراطية وعجل بسقوط التجربة الوليدة وذبح قادتها والمدافعين عنها!

قيم ابو الهوب ومساعدته للمحتاجين

اكد لي الرفيق قدوس عبدالرحمن بان ما يحمله خليل ابو الهوب من قيم واخلاق عالية قلما تجدها عند غيره واعتقد ان الشيوعيين الذين احتكوا به وتعايشوا معه وجدوا فيه انسانا يتوافق بأخلاقه ومبادئه مع قيم الحزب الشيوعي واضاف بانه ابو الهوب نفسه وجد بالشيوعيين ضالته وهنا حصل التقارب والانسجام وبالتالي الانضمام الى الحزب.
وفي كتاب "اسرار وخفايا شقاوات الزمن الماضي" للمؤلف سعد محسن خليل يقول: "ما دمنا بصدد الكتابة عن شقاوات بغداد فمن الانصاف ان نبدأ بالكتابة عن الشقي خليل ابو الهوب "ابو سرحان" فهذا الشقي يعتبر من الشقاوات النبلاء فقد كان يكنى بعروة بن الورد فهو شقي ترك اثرا واضحاً في مناطق نفوذه وهي مناطق الفضل وما يحيط بها من احياء مثل العزة والجوبة والمعدان وسيد عبدالله وشارع الشيخ عمر فهذه المناطق كانت تعيش بأمان تحت حمايته ولم يحدث ان اخذ هذا الشقي النبيل خاوة او اتاوة من معوز او محتاج بل كان ما يجنيه من الاغنياء لايبخل به على محتاج ولم يكن شقياً مؤذياً او ظالماً بل شقي يتحلى بخلق رفيع وكرم فاض بجوده على المحتاجين".

المقاهي تتحول الى منتديات ثقافية

ان التغير الثوري الذي حصل في المجتمع العراقي بعد ثورة 14 تموز 958 ساهم في توفير اجواء جديدة عمقت الشعور العالي بالوطن والاحساس بالوطنية فقد تعرض المجتمع العراقي ابان العهد الملكي البائد الى انحرافات وسلوكيات بعيدة عن قيمه واخلاقه فما ان نجحت ثورة 14 تموز حتى التف حولها الملايين وخاصة قوى اليسار والديمقراطية وساهم خليل ابو الهوب والمئات من كوادر وقيادات الشيوعيين والديمقراطيين بمحاربة السلوكيات الخاطئة واحلال قيم الثورة ومبادئها حيث تحولت عشرات المقاهي الشعبية الى مقرات لاتحاد الشبيبة الديمقراطية احدى منظمات المجتمع المدني القريبة من قوى اليسار والشيوعيين لتشكل هذه المقاهي منتديات ثقافية داعمة للثورة ومنجزاتها. وقد حدثني الرفيق كيلان وهو من ابناء ذلك الجيل بان الشهيد خليل ابو الهوب كان احد المساهمين البارزين في تحويل المقاهي "المشبوهة بالتعامل بالممنوعات" الى مقرات للشبيبة وبذلك ساهم ابو سرحان بسد طرق الانحراف والرذيلة وحول تلك الاماكن الى منتديات تربي على الوطنية وتبني ثقافة المجتمع الجديد وتقف ضد التوجهات المنحرفة "الادمان والمقامرة والمخدرات"!

نصير الفقراء وحامي الضعفاء

عندما فكرت بالكتابة عن هذه الشخصية البغدادية وجدت العشرات من الحكايات التي يتناقلها الناس وان اختلفت بمضامينها الا انها اتفقت على امر واحد هو القيم النبيلة التي يحملها ابو الهوب فهو متواضع وبسيط يساعد الفقراء وخاصة الارامل والايتام ويحمي الضعفاء ويساعدهم على العمل ويوفر لهم مستلزماته. حدثني احد القريبين من "ابو سرحان" بأنه كان يساعد بعض العوائل خاصة ايام الاعياد والمناسبات حيث يرسل عوائل بعينها لبعض تجار الشورجة لكسوة العائلة الفقيرة التي يرسلها ابو الهوب! وقال لي الاخ شهاب وهو صديق لسرحان ابن الشهيد ابو الهوب (سرحان اعدم ايام صدام بتهمة قتل ابناء محيي مرهون احد ازلام صدام) قال: "كان ابو الهوب يتردد على منطقة النهضة في شارع الكفاح وفيها احد الكسبة يبيع "عروك" للافطار الصباحي للعمال، وكان خليل يمر على هذا الكادح ويأخذ منه قطعة صغيرة ويناوله ربع دينار وهو مبلغ جيد يومها! وفي احد الصباحات لم يجد ابو الهوب ذلك الكاسب الفقير وسأل عنه حتى شاهده، فسأله لماذا انت غائب؟ فأجابه الكاسب الفقير السبب هو وجود احد اشقيائية المنطقة وطلب مني ان اعطيه خاوة مقدارها دينار يوميا وهذا المبلغ لا استطيع ان اقدمه! هنا انفعل ابو الهوب وقاله له: باجر تجي تفتح على وكتك. وفعلا حضر الكاسب وجاء خليل قبله ووضع "طاوته على البريمز" هنا حضر الشقي وحاول منعه والاعتداء عليه فتدخل ابو الهوب ومسك الشقي "النفخة" من يده ووضعها في "دهن الطاوة المغلي" هنا بدا هذا يصرخ! اجابه ابو الهوب اذا بيكم خير اكدروا على الاقوياء.. مو تجون على ذوله الفقرة!
وهناك العشرات من هذه الحكايات التي يتحدث بها ابناء جبل الخمسينيات وقد تسنى لي ان اتحدث الى احد المتخصصين بعلم النفس فأكد لي بأن الذي جذب خليل ابو الهوب الى الفكر الشيوعي هي تلك النزعات والقيم الخيرة التي يحملها والتي وجدها بالفكر الاشتراكي وقد جسدها الشيوعيون في سلوكهم. وهذه القيم كثيرا ما جسدها هؤلاء الفقراء الشجعان عبر الازمان.

«يا أعداء الشيوعية اتحدوا لاسقاط الثورة» !

سأحاول ان اكتب في المستقبل عن الصراعات السياسية بين قوى اليسار والديمقراطية من جهة والقوى الرجعية والقومية ورجال العهد البائد من جهة ثانية وكيف رفع شعار "يا اعداء الشيوعية اتحدوا"! في محاولة لاسقاط تجربة 14 تموز 1958 ورغم محاولات الشيوعيين تجنب الاحتكاك الا ان اعداء الثورة كانوا هم المبادرين والمهاجمين وحصل ما حصل وكان خليل ابو الهوب هو احد ضحايا ذلك الزمان.
ففي احدى مقاهي منطقة شارع الشيخ عمر اجتمعت مجموعة معادية للثورة وخططت لاساليب جديدة للاجهاز عليها وكان الهدف الاول هو منهج الاغتيالات وبمن نبدأ؟ البعض طالب باغتيال مجموعة الشخصيات المحيطة بخليل ابو الهوب فقال احدهم: لا.. نبدأ بخليل ابو الهوب.. عندها يتفلشون كل جماعته. وفعلا اتخذ القرار وبدأت الخطوات.. وحدد المكان.. وفي احد الايام كان خليل في مقهى زناد في ساحة النصر وبينما خرج من المقهى هاما بالصعود الى سيارته الجيب.. انهمر عليه الرصاص وحاول ان يسحب مسدسه ولكن.. هرب الجناة باتجاه شارع ابي نؤاس حيث كانت تنتظرهم سيارة جيب ومنها الى الميدان ليبلغ القاتل مسؤوله الحزبي "القومي" بأنجاز المهمة.

تشييع اهتزت له بغداد

وانتشر خبر استشهاد الرجل الشجاع خليل ابو الهوب وتواطأت المؤسسات الامنية وغضت الحكومة نظرها عن الجريمة وفاعلها واهدر دم وطني عراقي اصيل وجرت في اليوم التالي مراسيم تشييع للراحل اهتزت لها بغداد وبكت العوائل دما وحزنت الارامل والثكالى والايتام لان خليل ابو الهوب هو الرجل الشهم الذي كان يعين المحتاجين ويساعد الضعفاء وينشر الامان والاطمئنان بين اهل منطقته. تحية حب وتقدير للمناضلين من اجل شعوبهم واوطانهم والخزي والعار لفاقدي الضمير والمتاجرين بدماء مواطنيهم.