شهداء الحزب

كاظم الجاسم..عاش شيوعياً ومات شهيداً باسلاً / نبيل عبد الأمير الربيعي

القائد الفلاحي كاظم الجاسم اسم لا ينسى في مسيرة الحزب. فقد تفرغ للعمل الحزبي وكرس حياته للعمل السياسي، ونذر نفسه لخدمة شعبه وحزبه، فكان له التأثير في الكسب الحزبي وامتداد التنظيم في ريف الفرات الأوسط الذي يمتد لمساحات شاسعة ابتداءً من قضاء الهندية وانتهاءً بمحافظة المثنى التابعة سابقاً للواء الديوانية. وكانت كربلاء بامتدادها الواسع بما فيها قضاء النجف سابقاً من توابع تنظيم الفرات الأوسط، فيما كان التنظيم يمتد إلى النعمانية التابعة لمحافظة واسط .
عاش شيوعياً مناضلاً ، ومات شيوعياً باسلاً، أفنى زهرة شبابه في الكفاح الوطني، وجعل عائلته المناضلة هدفاً لمضايقات السلطات الجائرة التي هيمنت على مقدرات العراق الحديث فأذاقتها الويلات.
ولد الشهيد كاظم جاسم محمد جواد الشمري عام 1924 في قرية ألبو شناوة التابعة لمدينة الحلة في أسرة فلاحية, حيث أكمل دراسته الابتدائية في مدرسة الإبراهيمية. وبالنظر لنجاحه وتفوقه توجه للدراسة المتوسطة ثم انقطع عن الدراسة لينصرف للزراعة، وهو المنحاز لأبناء طبقته الفلاحية، وقد تاثر بالفكر الماركسي الهادف إلى إزالة الفوارق الاجتماعية .
انتمى الشهيد لصفوف الحزب الشيوعي العراقي مطلع الأربعينات من القرن الماضي, فكان الفلاح الشيوعي الوحيد في لواء الحلة. فقد أثر في كسبه للحزب المعلم الشيوعي محمد حسن الوائلي الوافد كمعلم إلى قرية الإبراهيمية (الدبلة), فأصبح الركيزة الأولى في المنطقة. كان له الدور في بث الوعي الفكري في القرية، فكان أول من جلب لعبة الشطرنج إليها, وأول من جلب المذياع ليجتمع الناس في داره لسماع الأخبار والحوار حولها. وكان يقدم الخدمات للفلاحين وأبنائهم، فيحلق رؤوسهم ويساعدهم في تشييد دورهم وتبني مطالبهم، وسعى في وقت مبكر لإيصال الكهرباء للقرية من خلال مراجعة الدوائر الحكومية .
بعد انتمائه للحزب كان بيته ملجأً للرفاق الحزبيين في الأزمات والشدائد والمطاردة، ومقرا دائما للقاءات الحزبية. وقد حفر ملاجئ تحت الأرض في بستان كاظم لفته عبد الجاسم لا يمكن الاهتداء إليها بسهولة، في هذه الملاجئ عاش الفقيد زكي خيري أيام الانقلاب عام 1963، فكانت قرية البو شناوة تمثل الخطوط الخلفية للرفاق بعد انقلاب شباط 1963 .
أواسط الأربعينات تفرغ للعمل الحزبي وتميز بنشاطه المؤثر، مما جعله مثار تساؤلات الشرطة السرية ، فاضطر للتخفي عن الأنظار عام 1948، أثناء حكومة صالح جبر التي واجهت المعارضة الشعبية بقسوة، وقاومت محاكمها بإصدار الأحكام الظالمة وإغلاق الصحف للأحزاب المعارضة وإصدار الأحكام بإعدام الضباط الأكراد ومحاكمة قادة الحزب وإصدار حكم الإعدام بحقهم. كانت للشهيد كاظم الجاسم أولى تجربته النضالية لمعرفة قدرة التحرك في انتفاضة كانون الثاني 1948(وثبة كانون) ، من خلال الثلاثي (محمد حسن الوائلي، أيوب طه النجفي, كاظم الجاسم) لتهيئة الأرض المناسبة للتحرك, والمشاركة في تظاهرات الحلة التي بدأت من منطقة الجامعين. كما ساهم مسؤولو مناطق المحاويل(مجيد الطعمة) والمسيب (محمد حسون) والهاشمية والقاسم والمدحتية والشوملي (كاظم الجاسم), بتحشيد المتظاهرين لجمع غفير من الفلاحين وتم عقد الاجتماع في حسينية السنية، فألقى الشاعر الشعبي عبد الصاحب عبيد الحلي قصيدة لتعبئة الجماهير والتنديد بالمعاهدة .
أسهم الشهيد كاظم الجاسم بشكل فاعل بعد عام 1949 في تحريض الفلاحين على التحرك والنضال لنيل حقوقهم المشروعة. أول تحرك للشهيد أثار السلطة وجعلها تتحرك لقمع الحركة الفلاحية المطالبة بالقسمة أو المناصفة بين الفلاح والملاك عام 1949، مما جعل السلطة تعتقله وهو أول اعتقال للشهيد حيث مكث في التوقيف 15 يوماً (1) وأطلق سراحه بكفالة، وعندما رزق بابنهُ البكر سماه (قيود) فأصبح يكنى بأبو قيود بدل (أبو رزاق).
أعلن العهد الملكي عن الانتخابات البرلمانية في حزيران 1954 تمهيداً لعقد معاهدة جديدة مع بريطانيا . فكانت منطقة الفرات الأوسط قد نشطت فيها الحركة الوطنية، التي تمكنت من تأليف جبهتها في أيار عام 1954، والتي بلغ عدد مرشحيها (37) مرشحاً يمثلون الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال والحزب الشيوعي وبعض المستقلين الوطنيين.كان للشهيد كاظم الجاسم الدور الكبير بالتهيئة للانتخابات ودفع أنصار الحزب ومؤازريه للمشاركة وانتخاب ممثليهم الساعين لتحقيق مصالحهم بدلا من انتخاب مستغليهم. وتم عقد اجتماعات في أرياف الحلة لشرح البرنامج الانتخابي من قبل الشهيد كاظم الجاسم وبجولات ميدانية .
بعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956حيث حشد الحزب للتظاهرات الجماهيرية الصاخبة في جميع المدن العراقية، كان الشهيد كاظم الجاسم المشرف على المظاهرات التي خرجت في قضاء الهاشمية والنواحي التابعة له. وخرجت يوم الجمعة في قضاء القاسم لتميز هذا اليوم عن باقي الأيام ومجيء أهالي القرى المجاورة، حيث قام الجاسم بتبليغ الرفاق بضرورة الإعداد للتظاهرة، فكان من ضمن قادة التظاهرة (جاسم حسن شلال-أبو منقذ- وحسن السهر وسيد علي السيد ياسر وعبيد عبد الأخوة وعبد الأمير هادي وعبيد آل طينة وفليح حمزة) وكان هتّاف المظاهرة (السيد مرزة صاحب الشرع) من العائلة الشيوعية المعروفة في الشامية، ووداي محيسن المشعان عن الحزب الوطني الديمقراطي. وقد حشد للتظاهرة الراحل أبو منقذ من خلال عمله في شركة تقوم بكري نهر الجربوعية. وعند سماعهم صوت الهتّاف(السيد مرزة الشرع) التفوا حوله وانطلقت التظاهرات. وقد حدث ذلك بمشاركة أكثر من 200 مواطن أكثرهم لم يكونوا شيوعيين ولكن شاركوا لدوافع وطنية .
أواسط عام 1956 وبعد الكونفرنس الحزبي للفرات الأوسط المنعقد في الكوفة والذي اشرف عليه الشهيد سلام عادل وحضره أكثر من عشرين كادرا حزبيا, فدعا الحزب إلى تشكيل مختصة على نطاق الفرات الأوسط تقوم بتشكيل الجمعية الفلاحية السرية ويبقى أعضاؤها في هيئاتهم وتناط بهم هذه المسؤولية بنفس الوقت. وشكلت اللجنة المختصة: الفقيد وكان الشهيد كاظم الجاسم عضوا فيها, وقد نشطت اللجنة في الفرات الأوسط وكانت الاجتماعات في بيت الشهيد الجاسم في قرية البو شناوة, وتم إيفاد وفد فلاحي للبلاط الملكي عام1956 تولى رئاسته الشهيد وقدم مذكرة تضمنت مطالب الفلاحين التي من اجلها حدثت الانتفاضة، نشرت في الصحف الرسمية .
عندما كان الشهيد كاظم الجاسم وأنيس ناجي يبحثان عن دار في كربلاء كبيت حزبي، وكان ذلك صبيحة 14 تموز 1958، بادر الشهيد الى الحديث عن مواصفات البيت وموقعه وأنيس يقول له (صارت ثورة) وهو يتصور الأمر مزاحاً "أكله بيت لكطة ... ايكلي ثورة"! وكان ان قاد التظاهرات في كربلاء تأييداً للثورة. ويرد محتداً. وبعد تشكيل المنظمات الجماهيرية كان الجاسم مسؤولاً عن الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية في بابل وعضو المكتب التنفيذي في الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية في العراق، فانتقلت والدته المناضلة (حضية جدي) معه إلى بغداد فيما ظلت عائلته في قرية البو شناوة.
كان الشهيد عام 1963 مسؤولا عن الخط الفلاحي في الحزب، وكان بعد الانقلاب على رأس المطلوبين للسلطة، فاتخذ من قريته قاعدة للنضال وبدأ تحركاته لإعادة التنظيم والاتصال بالخلايا رغم الظروف الصعبة. يقول رفيقه عبد زيد نصار: كنت مع كاظم الجاسم في المخبأ فجاء معن جواد من النجف للمساهمة في بناء التنظيمات والاتصال بالرفاق الذين سلموا من الاعتقال. وقد استطاع الشهيد كاظم الجاسم إعادة الاتصال بالكثير من المنظمات التي هي خارج تنظيم الفرات الأوسط مثل منظمة الناصرية والكوت وأبو غريب .
بعد انقلاب 18 تشرين الأول 1963 استعاد الحزب أنفاسه واخذ العمل الحزبي يمتد ويتنامى، وبدأ الشهيد كاظم الجاسم بلملمة التنظيم في منطقة الفرات الأوسط واستدعى أبو عباس (تركي الهاشم) بعد عودته من كردستان ولقائه بشهاب حمد الكوماني في قرية البو شناوة، فكان مقر الحزب في بستان القرية، وتمت قراءة البيان المطبوع بالرونيو, وتوزعت المهام فنسب أبو عباس للعمل في مشروع المسيب والمحاويل والسدة والاسكندرية، وتولى شهاب الكوماني مسؤولية قضاء الهاشمية ومعه عبد زيد نصار وآخرون وكان الشهيد كاظم الجاسم مسؤول مركز المدينة، ثم التحق بالتنظيم جبار معروف، فكان الاستقرار واضحاً على التنظيم. عام 1964 تم تشكيل لجنة المدينة وقد التحق للتخفي في قرية البو شناوة صالح داوود (أبو عماد), من أهالي الكاظمية وفيما بعد أصبح مسؤول المحلية. ثم التحق المعلم (محمد الشمري ) أبو جلاء لعضوية المحلية، فكان الشهيد كاظم الجاسم يقوم بربط التنظيمات في الأماكن البعيدة ويعيد الصلات مع الخلايا.
بعد انقلاب البعث عام 1968 وقيام أزلام النظام بتصفية واغتيال أعضاء الحزب والهجمة البربرية في الاعتقالات، كان رأي الحزب إيفاد بعض القيادات ممن وضعت أسماؤهم على لائحة الاعتقال للدراسة في الخارج وإبعادهم عن أنظار البعثيين، ومنهم الشهيد كاظم الجاسم والشهيد جبار جاسم (أبو عبيس) سكرتير محلية بابل،فكان محل ترحيب الرفاق السوفييت الذين سرهم أن تكون في الوسط الفلاحي شخصية من هذا الطراز، حتى أطلق عليه أساتذته لقب (البروفسور) تحبباً وإعجاباً .
كانت رغبة قادة الحزب أن يعمل الشهيد كاظم الجاسم ضمن تنظيمات النجف. لكن رغبة الشهيد كانت العمل ضمن تنظيمات بابل لأنها أكثر ضماناً وملاءمة لحركته وسلامته، فاستجاب الحزب لرغبة الشهيد، فعاد إلى مدينة الحلة والتقى بكل من عبد زيد نصار وجاسم الحلوائي (أبو شروق) والشهيد جبار جاسم (أبو عبيس ) وجليل حسون عاصي (أبو نغم). بعد تناول الطعام أراد الالتقاء ببعض الأصدقاء بقرية الكصيرات منهم تركي الهاشم (أبو عباس) وأبو رياض، فقال له عبد زيد نصار إن (مهدي السهيل) متعاون مع الأمن والبعث وعليك عدم المرور به، فأجابه (إن زيارة واحدة مني استطيع فيها أعادة المياه إلى مجاريها) فقال له أبو شروق (اسمع ما قاله عبد زيد نصار وعليك الحذر من هؤلاء). لكنه رغم التحذير زار مهدي السهيل الذي اقام وليمة له. وبغفلة قام السهيل بتفريغ مسدس كاظم الجاسم من الأطلاقات, وأرسل ابنه (مطشر السهيل) إلى أمن المدحتية ومنظمتها الحزبية البعثية لإخبارهم بوجود كاظم الجاسم في منزلهم. فتم إلقاء القبض عليه وأدعوّا إنهم القوا القبض على عصابة من اللصوص للتمويه ونقل بسيارة تكسي خوفاً من تسرب المعلومات للحزب. ولكن وصل الخبر إلى محلية الحزب في بابل التي كان يقودها وقتذاك جليل حسون عاصي (أبو نغم). أرسل الشهيد كاظم الجاسم مخفوراً إلى امن بغداد،لإجراء التحقيق معهُ، وقد اتصلت قيادة الحزب برئيس الجمهورية احمد حسن البكر ونائبه صدام حسين اللذين وعدا بإطلاق سراحه. لكن كان الأمر مبيتا لاعتقاله وتصفيته في معتقل قصر النهاية السيء الصيت. وقد تمت تصفيته هناك بالفعل، حسب قرار مجلس قيادة الثورة المرقم 919 في 30-10-1973 مع مجموعة من الرفاق وبتوقيع أحمد حسن البكر. وقد أصدر الحزب في حينه بياناً شديد اللهجة، استنكر فيها إلقاء القبض على قائد شيوعي مثل كاظم الجاسم محمّلاً الحكومة مسؤولية صون حياته.
ـــــــــــــــــ
1- محمد علي محيي الدين – كاظم الجاسم ودوره في الحركة الوطنية ط1 سنة 2011 –دار الفرات.