شهداء الحزب

قم يا سمير لنحتفل بثمانين الحزب / د. جاسم محمد الحافظ

في اواخر السبعينيات من القرن المنصرم، وصلت ليلا الى اسيا الوسطى، اولى محطات الشتات البعيدة عن الوطن. كنت منهكا تلفني حيرة الغرباء في المدن الجديدة، محاصرا بعالم من تداعيات الذاكرة، بين حبيبة تركتها ورائي، ورفاق قاب قوسين او ادنى من انياب الغول الممدد على طول البلاد وعرضها، وام تبكي ولدا- صدق حدسها لن تراه ابدا- واشقاء تغالبهم هواجس القلق، وأبٍ يتمترس بالشجاعة والصبر.
في الصباح التالي لوصولي طرق فتى غريب ممشوق القوام، عذب الابتسامة باب الغرفة، القى علي التحية بأناقة طمأنت روحي المضطربة، استأذنني الدخول، فدعوته ورحنا نتجاذب اطراف الحديث، راح يسألني بشغف عن مدينة الثورة، عن ازقتها واسواقها، واهلها الطيبين المحروسين بفكر الفقراء.. دعاني ان اتناول معه الفطور مازحا سأقاسمك ما تبقى من راتبي الشهري ريثما يصرفون لك المعونة الجامعية، ذهبنا معا الى حانوت الحي الجامعي، فأومأ للبائع بيده مؤشرا صفا من المعلبات الرخيصة جدا، والتي يبدو ان احدا لم يسأل عنها لفترة طويلة وقال باللغة الروسية (بقلجان اي معلب مرقة الباذنجان). فدفع البائع الينا العلبة متثاقلا ومندهشا من طلب هؤلاء الاجانب البؤساء! وهكذا رحنا نتناوب على شراء هذه العلب حتى كان يوم ولجت فيه باب الحانوت فصرخ جميع بائعيه بوجهي وبصوت واحد بقلجان!! فشعرت بالخجل الشديد وهرعت الى سمير مضطربا، ولم اكد اقول له بأني كنت في الحانوت الجامعي حتى قاطعني قائلا: وصرخ بك جميع البائعين بقلجان أليس كذلك؟ اجبته مندهشا ولكن كيف عرفت ذلك؟ ضحك بصوت عالٍ وقال: لقد فعلها الابالسة معي كذلك، بعد ان ساعدناهم في تصريف كل تلك البضاعة البائرة، وشاعت الحادثة كطرفة جميلة بين الطلبة العرب، من كان كادحا مثلنا ومن اغدق صدام عليه من ثروة العراق بما يكفي ليعمي بصيرته ويشتري به ذمته!
كان سمير رجلا خجولا، يطأطىء رأسه تواضعا لمحدثيه، كالسنابل المترعة بالقمح.. كانت روحه شفافة وجميلة والدعابة حاضرة لديه دوما، وجدته يوما مهموما وبيده قصاصة ورق، سألته ما بك يا سمير؟ قال لي: لقد قررت ان ابادر الى جمع التبرعات بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين لتأسيس الحزب، وبدأت مع زملائي في الصف واغلبهم من الطلبة الفيتناميين، فأرادوا اذنا من مسؤولهم الطلابي في مدينة طاشقند، فقصدته، وبعد ان اضناني شرح وضع حزبنا له في الداخل، اثر اشتداد الهجمة البعثية الشرسة عليه وحجم عدد الشهداء من ضحايا هذه الهجمة، كتب لي هذه القصاصة باللغة الفيتنامية، وشدد علي ان لا استعملها لاكثر من مرة، ووعدني بالويل والثبور وعظائم الامور ان خالفت ذلك، وما ان واجهت احدهم بهذه الورقة لابدأ بحملة التبرع، إلا وسألني اين موافقة وتوقيع الرفيق (ديك فان)!. من هذا الديك الاخر؟ واين اجده؟ واخيرا عرفت انه مسؤولهم في الكلية. وبعد الحصول على موافقته، عرضت هذه القصاصة على جمع منهم تصادف وجودهم في مطعم الجامعة فتلاقفوها ثم نشب بينهم شجار عنيف وتجمع الطلبة من حولهم يتساءلون عن سر ما اصاب هؤلاء المساكين، وانا في حيرة من امري.. رفيق سوري راح يهمس.. لك العمى شو عملتلهم سمير! ثم جاءني ما جمعوه: بضعة كبيكات! لماذا؟ كم دعاهم ديكهم ان يتبرعوا به؟ رد علي قائلهم: خمسة كبيكات (ما يعادل خمسة فلوس عراقية حينها). شطت غضبا ولعنت تلك الساعة التي قررت ان ابدأ التبرعات مع هؤلاء حيث اضعت معهم كل هذا النهار، وسرعان ما ابتسم سمير قائلا: يابه.. امريكا دمرتهم، ما خلت على حالهم حال.. همه ينرادالهم تبرعات!
كان سمير مهدي شلال رفيقا صادقا وحالما ببناء الاشتراكية الانسانية في بلادنا، وفي اختفاء الجوع واللا مساواة.. كان يتمنى ان يرى في العراق كل مظاهر التحضر والتقدم، التي تقع عليها عيناه السوداويتان الجميلتان في العالم المزدهر، انه رسام مأخوذ بالتصوير الفوتوغرافي للطبيعة وبالاخص ايام تغير الوان اوراق الشجر، لذا وحقه، ما مر خريف ورأيت فيه شجرة احمرت اوراقها الا وتراءى لي راقصا فوق اوراقها جذلا كالطفل.
وحين انهى سمير دراسته الجامعية العليا بتفوق، رأى ابواب الوطن موصدة دون اهله الخيرين والحرب الخائبة للقعقاع ابن يوسف التكريتي تلتهم ابناءه الفقراء، فراح يدور حوله مترحلا مثلما تدور الكواكب حول شموسها، حتى التقطته ذرى جبال كردستان الشماء، والتحق بقوات الانصار، مقاتلا طيباً وديعا، شيوعيا باسلا وعنيدا في مقارعته للدكتاتورية البعثية، الى ان سقط اسيرا ثم شهيداً في سفوح بشت آشان ربيع 1983 التي روت من دماء عشرات الشهداء من الشيوعيين الاباة، المغدورين غيلة وعدوانا تنهش اجسادهم الطاهرة ضواري الجبال. لقد كانوا رسلا للأخوة بين العراقيين، جاءوا من بغداد والنجف والبصرة والحلة والعمارة والرمادي ومن مدن العالم كله، منهم من اكمل دراسته ومنهم من اجلها الى حين، كان سمير مؤتمنا على بعض اموال الحزب، فأعمت تلك اعينهم وانستهم سمير المقاتل، ذا الدم المختلط من ام كردية ثكلت به- واب عربي، فأطلقوا عليه النار امام رفيقات له قد وقعن في الاسر وسلبوا ما لديه. تماما كما فعل صدام حسين في حلبجة، الذي اباد الناس لان دما كرديا يجري في عروقهم!. فهل لهذا الدرس من فصول التدمير الذاتي المحزن، ما يساعد قوى شعبنا الوطنية والقومية والدينية على إدراك حقيقة ان قيم الكفاح المشترك يجب ان تصان، مهما اختلفت وسائل الوصول الى الوطن الجامع؟
قم يا صاحبي الاكرم فثمانون حزبك دنت، وانت أجدر من بها يحتفل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشهيد سمير مهدي شلال ماجستير علوم زراعية