شهداء الحزب

ذكريات.. عن الشهيد سلام عادل والخلايا المبكرة في الهندية / محمد عبدالله الهنداوي

كانت الارهاصات الوطنية التي سببتها وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948 وبروز قضية فلسطين الى السطح قد عمقت وعي العراقيين وعرفهّم اكثر بنوايا المستعمرين وما يخططون للقيام به. وما اعلنته حكومة صالح جبر عن نفيها التوقيع على المعاهدة واكسابها الدرجة الشرعية؛ فهاج الشعب العراقي وماج وانطلقت التظاهرات الرافضة من شماله الى جنوبه. وقد احدثت تلك المعركة وما تبعها من اقامة الفعاليات لتأبين الشهداء والخطابات الجريئة وما تنشره الصحافة العراقية التي وجدت المجال رحباً لشرح الحقائق كاملة، تطويراً واسعا لوعي الشعب العراقي ومعرفته الحقوقية. وكنت آنذاك ومجموعة من شباب الهندية نلتف حول مجموعة الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يقودها المرحوم عبد الرحيم السعداوي الذي اصبح فيما بعد سكرتيراَ عاماَ للحزب الوطني الديموقراطي فكنا نمارس العمل السياسي في نطاق الحزب وقراءة جريدة الاهالي، وكنت اراسلها واكتب لها رسالة المدينة التي تنشرها باستمرار فتشيع في المدينة جواَ من النقاش والوعي السياسي وكان قد تهيا لي في تلك الفترة ان اكتب وانشر عدداً من القصائد السياسية في احدى الصحف القومية والتي كانت تثير الجدل لتصديها للامور السياسية في مقاهي المدينة ومجالسها.
وبعد ان اقدم نوري السعيد على ارتكاب جريمته في اعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي فهد وصارم وحازم تصاعد الوعي والتعاطف عند الشعب الى اعلى درجاته رغم شدة القمع وقسوته من اجل الانضمام الى حلف بغداد وربط العراق بالعجلة الاستعمارية الى الابد.
بعد ذلك اتسع نطاق وعي مؤيدينا وكثرت اعدادهم فقررت ان امضي في الشوط حتى نهايته فاتصلت بثلاثة رفاق منهم ودعوتهم في بيتي واخبرتهم اننا بصدد تشكيل لجنة محلية للمدينة تأخذ على عاتقها بناء التنظيم وارساء قواعده، وقلت لهم لا بد ان يكون واضحاَ لديكم باننا سوف نتعرض للاضطهادات ما يتطلب جرأة وقوة الإرادة وان الضعف والمواقف الهشة مرفوضة، فابدى الثلاثة استعدادهم لقبول كل ما يفرضه الواقع من التزامات لان مهمتنا شاقة وطويلة. بعد ذلك اختاروني سكرتيرا لهذه اللجنة، وكان اعضاء لجنة المدينة هم كل من غني عبد الهادي وميرزا حمزة وفخري عبد الهادي، بعد ذلك اخترنا تسعة رفاق شكلنا منهم ثلاث خلايا ترتبط باعضاء لجنة المدينة وانتظمت اجتماعاتنا، وقد جرى كل ذلك دون ان تكون لنا اية صلة او ارتباط بالحزب رغم محاولاتها المتعددة فقد كانت اجتماعاتنا في البساتين والدور الآمنة . وفيها ندرس ادبيات الحزب كالنظام الداخلي وبعض الكتب الماركسية التي نحصل عليها . وبعد سنتين عرفنا ان الرفيق الراحل طاهر المواشي وهو من ابناء المدينة وكان طالبا يدرس الهندسة في جامعة بغداد، كان شيوعيا فاتصلنا به واوضحنا له حقيقة وضعنا فاتصل بالحزب الذي ارسل لنا الرفيق عبد الامير حداد من محلية الحلة الذي بارك جهودنا وارسل لنا كافة نشريات الحزب وواصل اشرافه علينا فكنت اسافر الى الحلة واجلب حصة مدينتنا من المطبوعات. وكانت التحقيقات الجنائية قد اصدرت كتابا سمته الموسوعة استهدفت فيه تشويه اهداف الحزب والاساءة اليه وتشويه سمعته فكانت خير مساعد لنا في معرفة طبيعة الحزب واهم توجيهاته في التنظيم. فابدعنا في نشرها وتوزيعها بين الناس على نطاق واسع وتلقفها الناس لقراءتها. وكانت الاجتماعات الحزبية التي تعقد بالبساتين القريبة لاحياء المناسبات الوطنية التي تلقى فيها الخطب والقصائد . وكانت اللافتات التي تحمل شعارات الحزب تعلق ليلا على اعمدة الكهرباء واسلاكه بحيث يصعب انزالها وتوزع النشرات في الشوارع والطرق العامة وتتلقفها الناس.
فشاع ذكر منظمة المدينة ونشاطها في مناطق الفرات الاوسط وتردد صدى اعمالها بعيداً. ولما حددت الحكومة موعدا لاجراء الانتخابات البرلمانية عام 1954، قررنا خوضها ولكننا لم نجد المرشح الذي يتبنى شعاراتنا فاتجهت النية لترشيحي لخوضها كمرشح عن المدينة وكنت في الثلاثين من العمر وحاولت اقناع الرفاق بان ترشيحي غير قانوني وقد رفض الطلب المقدم من المنظة للترشيح فاتجهنا الى دعم احد المرشحين الوطنيين وهو المحامي السيد علي القزويني لقربه منا باعتباره رئيسا لفرع حزب الاستقلال في الحلة. وصناديق الانتخابات لم تفتح ولكن نودي بفوز المرشحين الاقطاعيين فقط.
ومن الغريب ان يفشل المرشح البارز ورجل الدين الكبير الشيخ عبد الكريم الماشطه في الانتخابات، وكان قد زار منظمتنا في الهندية ودخل بيتي مشيا على قدميه مشيدا بالقصائد التي نشرتها في جريدة صوت الفرات وبنشاط منظمتنا الحزبية وكفاءتها وصلاتها الجماهيرية الواسعة التي اتت للتسليم عليه في 20/6/1954. سلمني المسؤول الشهيد عبد الامير حداد استمارة عضويتي في الحزب ففرحت بها كثيرا وانصرفت لترشيح بعض رفاقي في المنظمة وهم كل من الرفيق غني عبد الهادي الذي اصبح فيما بعد مسؤولاً عن فرعية العمارة للحزب ومرزا حمزة الذي صار رئيسا لنقابة الزيوت في بغداد ويونس السماوي ومحسن الحاج حمود وفخري عبد الهادي وابرهيم محسن بعد ذلك انصرفنا الى دعم المنظمة بعناصر جديدة ودماء حارة ولم تفتر بنشاطها يوما. وفي ليلة من ليالي الخريف الباردة في عام 1955طرق باب داري ثلاثه اشخاص عرفت ان احدهم هو الرفيق عبد الامير حداد اما الاخران فلم اعرفهما الا فيما بعد.
فتكلم احد الرفيقين مشيدا بمنظمتنا وبمواقفها الصحيحة وبدوري كمسؤول عنها ثم اخبرني باختياري عضواَ في اللجنة الفرعية للفرات الاوسط التي هو مسؤولها ولم استطع معرفة اسمه الا بعد ان شاهدته يسير مع قادة الحزب في تظاهرة ايار 1959 فعرفت انه الرفيق سلام عادل . اما الشخص الثاني فكان الرفيق الشهيد كاظم الجاسم . استمر اجتماعنا حتى الصباح حيث طلب منا الرفيق دراسة امكانية قيام منظمتنا بالتهيئة لتظاهرات واسعة ضد حلف بغداد ومشاريع الاستعمار. وفي اليوم التالي اجتمعنا برفاق اللجنة وشرحت لهم موقف الحزب وطلبه فوافقوا جميعا ثم حددنا يوم الخامس عشر من تموز موعدا لانطلاقها من المكان المحدد كما اتذكر .
وفي الزمن المحدد انطلقت التظاهرة رافعة شعارات الحزب التي تطالب بسقوط حلف بغداد واطلاق سراح السجناء السياسيين والحريات العامة، انطلقت من مكان قريب من السوق الرئيسي للمدينة وكانت صاخبة وجريئة ورغم ان الرفيق سلام حذرني شخصيا من المشاركة فيها اطلاقا الا انني لم التزم بالتحذير لاسباب تتعلق بجو التظاهرة وكنت في وسطها وقد وجهتها الى مركز الشرطة ودار القائم مقام ثم انصرفت فاشتبك المتظاهرون مع رجال الشرطة الذين فروا واخلوا المركز واغلقوا الباب الرئيسية فقد جرح احد افراد الشرطة في رأسه ثم تفرقت التظاهرة حال وصول شرطة النجدة من الحلة التي شنت حملة واسعة اعتقلت فيها نصف شباب المدينة ثم بدأ التعذيب لمدة ثلاثة ايام تحملت انا وحدي النصيب الاكبر منه، حيث كسرت وتمزقت ساقي وفقدت الوعي وقد فشلوا في معرفة من قادة التظاهرة ومن هو الذي ضرب احد افراد الشرطة الذي لم يكن احد يعرفه سواي. وقد اثار هذا الصمود الاساطير وظل الناس يتحدثون بها زمنا. بعد ذلك اطلق سراح جميع المعتقلين الا انا حيث نقلت الى موقف ناحية الكفل حيث استانف المحامي مظهر العزاوي الذي حظر من بغداد خصيصا واخرجني من السجن بعد 120يوما.
وبعد شهرين عقدت المحكمة جلسة لاصدار الحكم حيث وصل المحامي الراحل مظهر العزاوي وطلب اطلاق سراحنا، حيث خرجنا جميعا عدا محمد علي موسى الذي وجد لديه سلاح يشبه السلاح الذي ضرب به احد افراد الشرطة وهو بريء من التهمة.
وبالنسبة للراحل غني عبد الهادي فقد حضر من بغداد ولم يكن قد شارك معنا في هذه الفعاليات مسؤولية لجنة المدينة لتوفر الشروط المطلوبة فيه ثم تركت المدينة لتعذر استمراري في العمل هناك، وسلمني الرفيق سلام عادل رسالة الترحيل الى بغداد.
ملاحظة: الغريب ان يروي احد الاخوة في رسالة نشرت بطريق الشعب ذاكراً ان أول مسؤول لمدينة الهندية هو الرفيق الراحل غني عبد الهادي متجاهلا صفتي وعلاقتي بها ولم يكلف نفسه عناء السؤال من لجنة المدينة الحالية على الاقل. فانا الذي رشح الرفيق عبد الغني لنيل عضوية الحزب وكنت مسؤول لجنة المدينة.