شهداء الحزب

الشهيد دهش علوان.. الشيوعي الذي اخلص لأبجدية الوفاء / محمد فخري حسن و حاتم الملا عبد اللطيف علي

انجبت الحركة الشيوعية في العراق منذ ثلاثينيات القرن المنصرم وما زالت الكثير من الكوادر المتمرسة والمدربة في ميادين العمل السياسي والحزبي التنظيمي فضلا عن ريادتها الميدان الثقافي بلا منازع، يشهد لها بذلك خصومها قبل أصدقائها، خصوصا في المشرق العربي ومنه العراق الذي انجب خيرة المفكرين والمناضلين التقدميين الذين كانوا هم الابناء البررة لهذه المدرسة التي هي المرادف للوطنية العراقية .
وفي بلدة بهرز كان التنظيم الشيوعي قد غرس بذوره منذ منتصف اربعينيات القرن العشرين على يد المرحوم عبد الوهاب الرحبي، و كان الانتاج وفيرا كما ونوعا حتى اصبحت بهرز دريئة محافظة ديالى في عدد وقوة تنظيمها .
ومن الذين يتذكرهم البهرزيون واهالي محافظة ديالى بفخر واعتزاز حتى اليوم هو الشهيد الاستاذ ( دهش علوان الدهش عاكول الشمري .....ولد الشهيد دهش في بهرز عام 1949في بيت طيني يقع في دربونة (المنتريس ) لعائلة كادحة فقيرة حيث يعمل والده المرحوم علوان الدهش الشمري (حائك) على جومته لينتج ويبيع من اجل توفير لقمة عيش حلال لابنائه، تعاونه ابنة عمه والدة الشهيد دهش المرحومة عطية محمد الشمري ..وكان تسلسله الثاني بين اشقائه التسعة حيث انجب والداه اربعة من الذكور وخمس اناث .
وبانت عليه منذ الصغر ملامح الذكاء وقوة الملاحظة والشخصية القوية والمحبوبة مع ميل واضح للكتمان واعتناء بالمظهر وعاطفة جياشة حنونة تجاه ابناء بهرز .... فشب في وسط اجتماعي متماسك ومتكافل اضافة الى بيئة زراعية في غاية الروعة والجمال تدعو إلى التفاؤل والتفكر .
دخل المدرسة الابتدائية في بهرز عام 1954واكملها ثم الدراسة المتوسطة وبعدها قادته خطاه الى دار المعلمين في بعقوبة والتي دخلها عام 1968ويبدو انه بدا من هناك اولى خطواته بالسير في طريق النضال مع الحزب الشيوعي ( يرجح ان الشهيد قيس عبد الله الرحبي ابو ازدهار هو من كسبه للحزب )حيث كان يومها التيار الشيوعي قويا واحداث عام 1963قد القت بنتائجها الكارثية عليه بعد ان نالت بهرز نصيبها منه وهو ليس باليسير.
اثارت شخصية الشهيد دهش ونشاطه التنظيمي الذي ابدع فيه بدرجة عالية عداء اجهزة السلطة له فاخذت تترصده حيثما حل حتى جاء يوم15-7-1970والذي اعدت فيه السلطة خطة محكمة لالقاء القبض على الشهيد دهش ورفاقه من تنظيم بهرز فقد دوهمت دورهم في فترة الظهيرة والتي يخلد فيها البهرزيون مثل باقي العراقيين إلى القيلولة بعد يوم قائظ ففوجئ الشهيد ورفاقه بالاعتقال وهم نيام في بيوتهم فكان معه الاستاذ عبد الجبار محمد الدليمي (ابو افاق) والمرحوم محمد جميل الرحبي (ابو آراز) والاستاذ منعم مجيد الصافي حيث اخذوا الى مديرية امن بعقوبة واقيمت لهم جولة تعذيب رهيبة بحضور مدير الامن ومعاونه ومفرزة الاعتقال وجرى تعليقهم بالمرواح مع الضرب بالهروات والعصي واللكمات وغيرها حتى اصابهم الاعياء وتكسرت اسنان (ابو افاق) واصيب بانحراف وفقدان جزئي للبصر مازال يلازمه حتى اليوم ... بينما توقفت يدا الشهيد دهش عن الحركة تماما اضافة الى الضرب بالعصي والاسلاك على كافة مواضع الجسم، وكانت تهمة الشهيد انه مسؤل خطر في محلية ديالى للحزب الشيوعي وقد نالوا من الشتائم الكثير مما تقشعر له الابدان باعتراف افراد الامن الذين قالوا للمعتقلين ( اولاد الك.... لقد ارهقتموننا دون فائدة ؟ نحن تعبنا من الضرب وانتم لم تتعبوا منه ؟!..)وقد كان صمود الشهيد اسطوريا يومها حيث نال الحصة الاكبر من التعذيب، وقيل ان المحافظ نعيم حداد كان في الطابق العلوي مشرفا على العملية .
وعند اطلاق سراحه من السجن و كان في حالة ميؤوس منها والدليل ان طبيب المركز الصحي في بهرز زار الشهيد للاطمئنان عليه واعطائه الابر للعلاج وعندما شاهد جسده اجهش بالبكاء وقال لايوجد في جسده مكان يصلح ان تزرق فيه الابر, من تداعيات التعذيب كما وأصيب الشهيد برعاف ظل يلازمه طويلا بسبب الضرب على الراس مع كسور في اليدين نقل على اثرها الى بغداد � شارع السعدون للعلاج .
ونتيجة لعلاقاته الاجتماعية مع كل افراد وطبقات وفئات المجتمع في بهرز ولاخلاقه وثقافته الواسعة في مجال الفكر الماركسي والاقتصاد السياسي والادبي (كانت لديه محاولات لكتابة الشعر) واحترامه لمعتقدات الآخرين فقد كان من زواره يومها الشيخ الفاضل اسامة العاني الشخصية الدينية المعروفة والمحترمة امام جامع ابي الغيث في بهرز للاطمئنان على صحته.
بعدها عانى من المطاردة والظروف الاقتصادية الصعبة له ولعائلته فكان ينام على سطح الدار رغم برودة الجو ليلا مصرا على عدم العودة إلى المعتقل ابدا بعدما لاقاه ! فلجا الى اقاربه في بغداد وعمل في تسليك الانابيب مع قريبه واجاد في عمله كثيرا رغم ان اجرته كان نصفها يذهب إلى قريبه ثمنا للايواء ؟! وكنى نفسه ب (حسن ابو فلح )..استمر ذلك لمدة ثلاث سنوات حتى حين صدور العفو عن الشيوعيين من السلطة وبدء مباحثات الجبهة الوطنية .
وفي عام 1974ونتيجة للخصال التي يمتلكها اضافة الى تنوع نشاطاته (كما ذكرنا )مثل تاسيسه فريق لكرة القدم في بهرز باسم فريق شباب النصر والذي كان للشبيبة الشيوعية وانشائه صندوق تبرعات للفريق يذهب ريعه في الاساس للحزب. كانت ثقافته واسعة خصوصا في مجال الاقتصاد السياسي وتفاعله الاجتماعي مع الجميع ومنهم المتدينون الذين نال احترامهم حيث كان يحضر الطقوس والمراسيم الدينية للاديان الاخرى منها الصابئة المندائيين فضلا عن اشرافه على اقامة وتنفيذ الاحتفالات بالمناسبات الوطنية للشيوعيين في بساتين بهرز وللاخلاق العالية التي تميز بها بين ابناء بهرز وشبابها. فقد كلفه الحزب ان يتسلم مسؤلية قضاء خانقين اضافة الى عمله كمعلم في مدرسة النعمان الابتدائية هناك .. فاجاد وابدع وحاز على احترام الناس (كل الناس) حتى خصوم حزبه .. ومن ذلك قصة فقدان احد رجال الامن المكلفين بمراقبته وهو من ابناء بهرز ايضا لمسدسه فلم يجد من ينقذه من ورطته غير الشهيد دهش فكان ان اجرى اتصالاته مع عدد من بيشمركة اكراد خانقين واعاد المسدس إلى رجل الامن! يشهد بذلك كل من التقينا بهم .
كل ذلك ولاسباب اخرى فقد نال ثقة الحزب الشيوعي العراقي ليكون احد ممثلي لجنة المنطقة الوسطى في المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي العراقي المنعقد في بغداد للفترة من 4-6-ايار 1976الى جانب عدد اخر من رفاقه ابناء بهرز .
وبعد تدهور العلاقة مع السلطة كان الهرب الثاني للشهيد دهش من بهرز الى بغداد حيث ظل يقود النضال في صفوف حزبه رافضا الهجرة الى الخارج رغم قساوة وخطورة الوضع ويجيب بانه اذا خرج وخرج غيره من يبقى للنضال . وقد استمر شقيقه احسان يلتقيه في مناطق المنصور والحيدر خانه وساحة كهرمانه حيث اعتقل في اللقاء الاخير مع عدد من الشيوعيين في منطقة كسرة وعطش في مدينة الثورة من قبل مفارز الامن في احد معامل الكاشي الذي اتخذوه للعمل والتمويه، يرجح انها بوشاية من احد المندسين. كان ذلك في الشهر الخامس من عام 1980.
وقيل انه شوهد في مديرية الامن العامة بحالة شديدة من الضعف والهزال حيث اللحية والشعر الكث كانه رجل في السبعين من العمر بسبب الاعتقال والتعذيب !.
اعدم من قبل الاجهزة القمعية يوم 2-7-1983حسب شهادة الوفاة الصادرة من مستشفى الرشيد العسكري .فكان صادقا في مقولته التي كان يرددها دائما ( ان تموت واقفا خير من ان تعيش راكعا ) .
ومازال البهرزيون كلهم يتذكرون الشهيد دهش علوان الشمري ويترحمون عليه، وقد خلده احد اصدقائه الشاعر المعروف ابراهيم البهرزي بقصيدة بعنوان (في ذكرى شهيد شيوعي )
رحمك الله يادهش وجعل الجنة مثواك
لم يتم العثور حتى اليوم على جثمان زين بهرز وبرعم المندرين الشهيد دهش علوان دهش الشمري ..ونحن بانتظار ان يكون له قبر يضم جسده الطاهر في بهرز التي عشقها وعشقته هي ايضا.