شهداء الحزب

احداث في الثانوية الشرقية سبقت انقلاب شباط 1963 (2-2) / محمد حسين النجفي

وفعلاً قررنا ذلك من دون اخذ موافقة من احد. وعندما بدأ موكب سيد هاشم الموسوي الاعتدائي بالسب والشتم، لم يستطع ناجي عليوي انتظار اشارتي، ولملم طابوق كسري في يديه الأثنتين وصاح واحد، اثنين، ثلاثة بسرعة فائقة وعمل الجميع مثله.
وبدأ الطابوق والحصى ينهال عليهم كالمطر، ولاذوا بالفرار جميعاً دون النظر الى الوراء. وكان يوماً لنا في التاريخ استطعنا ان نقف فيه بوجه الذين منحوا انفسهم حق السب والشتم والضرب والأعتداء وحتى القتل. وقد ابلي عامل الفرن بلاءً حسناً حيث استطاع ان يمسك بسيد هاشم ويكيل له الضربات سدادا للديون التي كان يعتدي بها على زملائنا كل يوم.
استمررنا في المشي باتجاه كرادة خارج، وكنا في اعلى معنوياتنا فرحين بالدفاع عن كرامتنا. وعلى العكس مما اشيع لاحقاً من ان مرافق (وليس مرافقي) مناضل ابن المهداوي قد شارك في ذلك. حيث انه لايعرف بتاتاً بالأمر، وكانت مفاجأة له. ولم يشارك في ما حدث بأي شكل من الأشكال. حيث كان مناضل يأتي بسيارة والده ويوصله مرافق واحد الى باب المدرسة، ثم يذهب. وعند انتهاء الدوام يأتي ليرافقه الى السيارة ليذهب الى البيت. حيث ان من المعروف ان المهداوي وعائلته كانوا من المستهدفين وذلك لأنه كان رئيس محكمة الشعب التي اصدرت احكام اعدام بحق بعض رجالات نوري السعيد، ومجموعة من الذين تآمروا على الزعيم والثورة. ومافاتنا اننا لم نحسب ما الذي سيحدث بعد ذلك . وعلى الرغم من انها كانت مفاجأة، الا انها كان يجب ان تكون متوقعة. وقبل ان يبدأ دوامنا في اليوم التالي ظهراً، وصلنا خبر عن طريق حبيب عمران الذي هو من طلبة الصف الخامس، بأن مجموعة من اشقياء ثانوية ابن حيان وبمشاركة بعثيي الشرقية قد اعتدوا بالضرب المبرح على مجموعة كبيرة من زملائنا مما ادى الى ارسال خمسة طلاب بالاسعاف الى مستشفى الطوارئ ومنهم ليث الخفاف وفريد عطو ووسام شكوري الذين كُسرت انوفهم، وطلب منا عدم الذهاب الى المدرسة في ذلك اليوم. وفي اليوم التالي تطور الأمر بسرعة ملفة للنظر. حيث صدر بيان من اتحاد الطلبة البعثيين يدين فيه " اعتداء ابن المهداوي وزمرته " على الطلبة. ويتهم فيه ابن المهداوي ومرافقيه العسكريين بالمشاركة في ألاحداث، وهذا مخالف للحقيقة جملةً وتفصيلا. ويستمر البيان " وبناء عليه نعلن الأضراب العام في الجامعات والمدارس". وبعد ذلك توالت الأحداث واعتصم البعثيون في رئاسة جامعة بغداد، وفقدنا زمام المبادرة واصبحنا ملاحقين من قبل اشقياء وفتوة البعث في عموم شوارع وازقة الكرادة الشرقية. وحدثت لنا مشاجرات عديدة في الشوارع واحدة في مدينة الضباط والأخرى في عرصات الهندية ، لأننا كنا ندور على الدراجات الهوائية لتوزيع المناشير وحشد الطاقة باتجاه كسر الأضراب. قررنا بعد ذلك ان نذهب إلى الدوام ونطلب من الجميع عدم ترك الصف. وكان العديد من الأساتذة التقدميين يقفون في وجه منظمي الإضراب ليس لأغراض علمية او تربوية فقط وانما لعلمهم بأن هذا الإضراب ماهو إلا تمهيد لمؤآمرة كبرى. وكان من بينهم استاذ الجبر عبد الجبار عبد السادة ومدرس الفيزياء عادل الياس وكان قد تخرج لتوه من كلية العلوم وكان نشطا جداً في مقاومة الأضراب واستاذ المثلثات البهرزي واستاذ الكيمياء انطوان القس .
وفي احد الأيام واثناء درس الجبر، حصل ان احتشد بعض الطلاب يطلبون منا ان نشارك في الإضراب. وكان أستاذ الجبر هو استاذ علي لا يدري ما الذي يجب ان يفعله. فما كان عليّ إلا ان انبري واتصدر الصف وبدأت بالهتاف:
" عاش اتحاد الطلبة هو ونضالاته، يسقط الاستعمار هو وعصاباته"
وردد الصف معي الهتاف بمنتهى الحماس، حيث كانت شعبتي، شعبة (ط) المجيدة شعبة على اهبة الاستعداد لمقاومتهم. وكان فيها من المتحمسن جداً فريد قرياقوس وطارق علي شيخو ومنير وجبار سعيد وغيرهم من شباب الاتحاد النشطين. وهكذا استمررنا بالهتاف مدوين بصراخنا جميع اركان المدرسة. ولما يئسوا من كسرنا ذهبوا وقرعوا جرس انتهاء الحصة قبل الأوان. وطلبت من استاذ علي (الذي كان قد نقل من الكاظمية لأسباب سياسية) الاستمرار لان الوقت الفعلي لم ينته، الا انه آثر الأنصراف.
وفي اروقة الثانوية الشرقية كان يجري حوار حاد بيننا وبين البعثيين. هم يقولون ان الزعيم دكتاتور وعليكم ان تشاركونا في الثورة عليه، ونحن نقول ان هناك مؤامرة رجعية استعمارية ضد الثورة ومكتسباتها خاصة بعد صدور بيان رقم (80) الذي حدد نشاط اسثتمارات شركات النفط وحرر 99,5في المئة من اراضي العراق كي تستثمر وطنياً. يطالبوننا بالمشاركة في الاضراب ونطالبهم بكسره لانه يمهد للانقلاب على الثورة. نحن ندافع عن الثورة ومنجزاتها وهم ينكلون بالزعيم واحداث الموصل وكركوك. وكانوا دائماً يذكروننا بأننا خارج الحكم حالياً وان الزعيم قد اعتقل العديد منكم ، وانكم اولى ان تثوروا عليه منا. وكان هذا حقا اريد به باطل.
وفي احد الأيام طلب منا البعثيون المفاوضات خارج المدرسة. واتفقنا على اللقاء في منطقة العلوية في القهوة المطلة على ساحة الجندي المجهول (سابقاً) وهي ساحة الفردوس حالياً ( الموقع جزء من فندق خمس نجوم حالياً). وكان ممثلونا حبيب عمران وسامي وكنت انا وآخرون مرافقين ومراقبين عن كثب. ومنهم كان صباح البحراني ولا اتذكر من كان معه. وعلى كل حال هم يحاولون اقناعنا بالمشاركة في الإضراب ونحن نطالبهم بإنهائه. وعلى هذا انتهت المحادثات الا انها كانت تجربه فريدة لشباب تتراوح اعمارهم بين الخامسة عشر والتاسعة عشر.
واصبح هناك تركيز عال على نشاطنا، واخذنا نعقد اجتماعات شبه يومية معظمها في بيت جد سامي. وكان يأتينا مشرفون من قيادات الاتحاد ومنهم شهيد وعصام القاضي والزهاوي. وبدأنا نشعر بأهمية عملنا وبأن الكل يعول علينا. وطلبوا منا ان ننظم تظاهرة في داخل الثانوية الشرقية لاتحاد الطلبة تتضمن الهتافات وكلمة يلقيها احدنا ووقع الاختيار على وسام. وبالفعل، قمنا بالتحدي وفي احدى الفرص تجمع حوالي ثلاثين طالباً وبدأنا بالهتاف:
"عاش اتحاد الطلبة هو ونضالاته يسقط الاستعمار هو وعصاباته"
جاء مدير المدرسة يونس الطائي الذي كان منحازاً، وسحب حبيب عمران من التظاهرة واستمررنا بالهتاف و بدأ البعثيون بهتافاتهم ايضاً، وقرع الجرس لبدء الحصة القادمة ولم تتح الفرصة لوسام لإلقاء الكلمة. كان تحدياً كبيراً لم يتوقعه احد. والتحدي الآخر هواننا ذهبنا في احدى الليالي وعبرنا سياج المدرسة وكتبنا على الجدران الخلفية للمدرسة اهم شعار في تلك المرحلة وهو:
السلم في كردستان
طوق الانضباط العسكري الثانوية الشرقية، الا انهم لم يدخلوا حرمها. وبدأنا نذهب الى المدرسة لافشال الإضراب حيث ان الإضراب لم يكن طوعاً في اية مرحلة من مراحله وفي اي مدرسة او كلية وانما كان البعثيون يستخدمون اساليب القسر والتهديد والضرب واستخدام اسلحة غير نارية مثل المديات وبوكسات الحديد والسكاكين. فعلى سبيل المثال تم الاعتداء على هادي منتظر وبهاء بالضرب لرفضهم الانصياع إلى طلبهم بعدم الدخول إلى لصف. ومع ذلك استطعنا ان نكسر الإضراب وبدأ الدوام يكون شبه منتظم وانتهت مرحلة هيمنة البعثيين على الثانوية الشرقية. وفي هذه المرحلة بدأت حملة اعتقالات. حيث اعتقل سيد هاشم من البعثيين، اما الباقون فإن معظمهم كانوا من جماعتنا. وكان ذلك غريباً جداً. حيث اعتقلوا حبيب عمران وبهاء ومهدي منتظر. كذلك جاء امر باعتقالي، الا انهم اعتقلوا زميلاً آخر اسمه محمد حسين في شعبة (ه) عن طريق الخطأ، وهو شاب لا يتدخل في السياسة مطلقاً، كما اخبرني بذلك الزميل حكمت الذي كان في نفس الشعبة. كذلك قام الأمن باعتقال فريد قرياقوس مع زملاء آخرين والاعتداء عليهم وتوبيخهم لأنهم من مناهضي الإضراب. وبعد 14 رمضان تم اطلاق سراح جماعتنا، ومعنى ذلك انهم اعتقلوا لوجود تلفيق في الأخبارية من انهم منظمون للإضراب وليسوا مقاومين له. وبذلك نعلم ان البعثيين كانوا يحاربوننا بشتى الوسائل، وان يدهم كانت تطول اجهزة الأمن والشرطة اضافة الى الجيش.
وكان ملفتاً للأنتباه ايضا ان الأذاعات المصرية وخاصة اذاعة صوت العرب ومديرها أحمد سعيد كانت مهمته الأساسية هي معاداة العراق والزعيم عبد الكريم قاسم وتسميته قاسم العراق وتتهمه بالتحالف مع الشيوعيين والشعوبيين ضد آمال الوحدة العربية التي كان ينادي بها جمال عبد الناصر، والتي كان البعثيون يتظاهرون بانهم من المؤمنين بها. كذلك دعمت سفارة الجمهورية العربية المتحدة ( وهذا كان اسم مصر وسوريا اثناء الوحدة) الإضراب عن طريق الترويج له وطبع المنشورات لهم في السفارة، مما اضطر الحكومة العراقية الى طرد احد الملحقين في السفارة في 24 كانون الثاني 1963 اي قبل خمسة عشر يوماً من 8 شباط 1963. كذلك تم الهجوم على رئاسة جامعة بغداد التي كان البعثيون معتصمين بها مما ادى الى اعتقالهم وكان من بينهم شخص اعرفه من كربلاء اسمه مهدي مغنص من كلية اللغات.
ونتيجة لاعتقال زملائنا قررنا ان نقابل وزير التربية والتعليم اسماعيل العارف. حيث ذهبنا انا وسامي ومناضل وعلي وربما شخص آخر الى ديوان الوزارة في منطقة السراي في باب المعظم. وطلبنا من السكرتير مقابلة الوزير ممثلين لاتحاد طلبة الثانوية الشرقية. استقبلنا الوزير في مكتبه دون تردد او تفتيش او تحقيق. وقلنا له ان سلطات الأمن قد اعتقلت العديد من زملائنا، ونحن ضد الإضراب ولسنا معه. وشرحنا له احداث الشرقية التي كنا نحن فيها ضحايا ولم نكن المعتدين. وبينا له ان الإضراب كان مفروضاً بالقوة على الطلبة وليس طوعياً. كان ينظر الينا بتعجب وعيونه النمرية تلمع مع ابتسامة وقورة في وجهه. وربما كان لسان حاله يقول ما الذي يفعله مراهقون بهذا العمر في مكتبي ويتكلمون وكأنهم ساسة في البرلمان البريطاني. وفي الختام شكرنا لحضورنا وطالبنا ان نركز على دروسنا وصافحنا مودعاً. خرجنا من مكتبه غير مصدقين انهم لم يعتقلونا، حيث كان ذلك وارداً جداً في حساباتنا.
لم يمر من الوقت كثير حتى سمعنا ما كان متوقعاً. ففي يوم ظلامي قاتم، هو يوم الجمعة 8 شباط 1963 وفي الساعة التاسعة صباحاً والمصادف الرابع عشر من رمضان، اذيع البيان رقم واحد المشوؤم. وبذلك دخل العراق في بحر من الدماء، اغتيل على اثره زعماء ثورة تموز المخلصون من الذين مازالوا في السلطة مثل الزعيم عبد الكريم قاسم والزعيم الركن الطيار جلال الأوقاتي والزعيم عبد الكريم الجدة والعقيد طه الشيخ احمد وكنعان حداد او الذين كانوا مبعدين والتحقوا للدفاع عن الثورة مثل العقيد فاضل عباس المهداوي ووصفي طاهر. واستشهد خيرة ابناء الشعب العراقي بين مقاومة الانقلابين او تحت التعذيب الوحشي. ودخلنا نحن طلبة الثانوية الشرقية الذين لم نكن سوى بعمر المراهقة، والعديد من اساتذتنا الوطنيين مرحلة جديدة من الاعتقالات والتحقيقات والمضايقات التي لا تعد ولا تحصى لمدة تسعة اشهر سوداء مقيتة حتى انقلب عبد السلام عارف على البعثيين في يوم 18 تشرين الثاني 1963.