شهداء الحزب

الشهيد زيدان منصور الشاهين / عبدالزهرة حسن حسب

1- المقدمة :
السِّفر النضالي للرفيق الشهيد أمانة في أعناق رفاقه. من شاركه النضال كله أو جزءاً منه. وفاؤنا للشهيد أن نكتب عنه فيبقى حياً في قلوب الرفاق, وتجربته تزيدهم خبرة. ومن سفر كل شهيد يدون تاريخ الحزب. فاكتبوا عن الشهداء أصحاب المواقف البطولية لتضاف الى بطولات الآخرين .
في شهر آب 1963 استمرت اجتماعاتنا الدورية بشكل منتظم وتوسع الحزب وأخذت بدلات الاشتراك والتبرعات ترسل شهرياً الى محلية البصرة

2- مشاهد من أجرام البعث:
قد تمر الشعوب بفترات يحكمها الطغاة.
ورغم ما يسببه حكم الطغاة من ألم ونكبات لشعوبهم تصل الى حد الأجرام. لكن هذه الفترة لا تخلو من منجزات يذكرها التاريخ ويستفيد منها الشعب او الطاغية نفسه فمنهم من بنى دولة ومنهم من حلم باحتلال العالم بتوسيع دولة ومنهم من سرق ثروة. أما أن يحكم الطاغية بلداًً من أجل الانتقام من شعبه. هذا لم يحصل عبر التاريخ ولاسيما التأريخ الحديث ولا يقره العقل.
لكن البعث تجاوز التأريخ وأفسد العقل عندما حكم العراق من أجل الانتقام من شعبه عام 1963من القرن الماضي نعم حكم العراق من أجل الانتقام من قواه الوطنية، الديمقراطية منها والتقدمية.
صور جرائمهم ما تزال مطبوعة في خلايا مخ كل عراقي عاش أحداث السنة المذكورة وبعمر يدرك الحدث ولازال على قيد الحياة. أسعد البعثيين يوم ذاك صراخ ام قتل ابنها أمام عينيها وأفرحهم نشيج امرأة اقتيد زوجها ركلاً بالأقدام أمامها وزادهم سروراً صراخ طفلة أمسكت بساق أمها سحبها من ظفائرها عارية مسؤول بعثي وأرغمها على الجلوس بين حرسه القومي الذين أخذوا ينظرون إليها بشهوات جنسية ويضحكون بأصوات عالية. تعيد رسم هذه الصور المعبرة عن الجريمة خلايا المخ كلما استُفِزت بإسم البعث وصدق من قال إن إسم البعث مرتبط بالجريمة والمأساة
3- كيف تعرفت على الشهيد؟
في هذه الظروف يكون التنقل من أجل انجاز عمل ما ينطوي على مجازفة ناهيك عن التنقل من أجل البحث عن رفيق لمعرفة ما لديه من أخبار، او زيارة صديق انقطعت أخباره، ان المجازفة نفسها، لكنني بعد أن خرجت من المعتقل قررت أن أخوض المجازفة وفاءً للحزب وإنجازاً لمهمة قررت القيام بها, ومما زاد في تعقيد ما قررت القيام به.انني لم يسبق لي أن تنظمت حزبياً في قضاء القرنة حتى يعرفني بعض الرفاق أو أعرفهم أنا. إذن عليّ التفكير جيداً، وأن أحسن الاختيار للشخص الذي أظنه رفيقاً كي لا أعود للاعتقال مرة ثانية. استعرضت شخصيات من اعتقدت انهم رفاق ووقع اختياري على الشهيد (زيدان منصور الشاهين)
التقيته وحاولت أن يكون اللقاء صدفة غير مخطط له. كان شاباً وسيماً يميل الى النحافة وشخصية واضحة، ما أن تحدثت معه حتى اكتشفت قوة شخصيته وجرأة منطقه وصواب رأيه وصدق حديثه.
رغم هذه المواصفات إلا ان الحزن كان واضحاً عليه، أدركت أسباب الحزن وبادرته دون مقدمات او تردد
الحزب لم يمت يا زيدان وما يمر به الآن ما هي الاّ كبوة عابرة، وغالباً ما تكون الكبوة مجددة للحياة وتزيدها قوة، والحزب بعدها يزداد عدداً ويشتد نشاطاً، وستشهد الأيام الآتية صدق ما أقول. هل تصدقني يا زيدان؟
كيف لا أصدقك. وأنا أعلم في حرب تحرير كوبا وفي إحدى المعارك لم يبق مع فيديل كاسترو سوى اثني عشر مناضلاً، لكنه استمر في النضال وانتصر آخر المطاف، وها هي كوبا تقف شامخة أمام جبروت أمريكا.
أعجبني كلامه وكدت أقبله لولا ان اللقاء كان شبه حزبي ومن دوافع فرحتي اني أحسنت الأختيار وان من اخترته لم يكن شخصاً عادياً.
والآن قل لي يا رفيقي. ما أنت فاعل؟ وما فكرت به خلال هذه الفترة؟
- فكرت كثيراً ولم أنجز أي عمل.
- ثم سألني ما أنت فاعل بعد خروجك من المعتقل؟
- سأعمل الكثير وأنت معي
- بالتأكيد قالها زيدان وبدت على وجهه الفرحة.
- قل ماذا ستفعل؟
- سنعيد تنظيم الحزب في القضاء
- انها فكرة عظيمة. كيف لم أفكر بها؟
- قل لي يا رفيقي. هل تعرف بعض الرفاق؟
- نعم أعرف كثيراً منهم، لم يشملهم الاعتقال
- هل تثق بأحدهم جيداً؟
- نعم انه (كاظم لعيبي) صاحب محل لبيع الطحين في القضاء
- اذهب إليه غداً وكن حذراً وحاول اكتشاف مدى رغبته في العمل الحزبي مجدداً وفي هذا الظرف الصعب إن وجدته مستعداً قل له: انتم الأثنان ستعيدان التنظيم في القضاء، فإن زاد حماسة اخبره إنكما لن تكونا لوحدكما بل سيكون معكما بعض الرفاق، ثم حدد له الزمان والمكان الذي اتفقنا عليه للقاء بعضهم وأخبرني بعد عودتك منه
4- كيف تم تشكيل لجنة تنظيم القضاء وإعادة العمل؟
في اليوم التالي تم كل شيء على ما يرام وعدت الى البيت وكتبت بيانا استنكرت فيه الانقلاب وجرائم البعث بحق الشعب والرفاق، وأشدت بصمود الرفاق، وترحمت على أرواح الشهداء
وفي بعض الجمل حاولت أن أبعث الأمل في قلوب الرفاق وأخيراً ناشدت المجتمع الإنساني أن يقف الى جانب الشعب العراقي ويفضح جرائم البعث على نطاق واسع.
في الموعد المحدد التقينا نحن الثلاثة وتشكلت منا لجنة لقيادة تنظيم الحزب الشيوعي العراقي في القضاء، وتحدد بهذا اللقاء مسؤولية كل منا واتفقنا ان تكون اجتماعات الرفاق خيطية (لا يحق للرفيق جمع رفيقين في آن واحد) واتفقنا عندما نتصل بالرفيق نستدرج أولاً رغبته في العمل الحزبي في هذه الفترة الصعبة فإن وجدنا لديه الحماس نقرأ له البيان الذي أعد لهذا الغرض واتفقنا أيضاً على ضرورة وصول البيان الى اللجنة المحلية في البصرة وأوكلت المهمة اليه، ثم حددنا موعد اللقاء القادم بعد عشرة أيام لمعرفة ما أنجزه كل منا.
خلال هذه الفترة، تم إيصال البيان الى محلية البصـرة والتقيت بالرفـيق الراحل (أنور طه) أخبرته بما قمنا به، فسره ما سمع.
التقينا في الموعد المحدد وتحدث كل رفيق عما أنجزه والرفاق الذين تم الاتصال بهم وأخبرت الرفيقين عن ربط منظمة القضاء بمحلية البصرة واعتبرنا هذا اللقاء هو الاجتماع الأول لمنظمة الحزب الشيوعي في القضاء، تم اللقاء في شهر آب 1963 واستمرت اجتماعاتنا الدورية بشكل منتظم وتوسع الحزب وأخذت بدلات الاشتراك والتبرعات ترسل شهرياً الى محلية البصرة التي كانت بحاجة اليها، استمررت بالعمل مع الرفيقين حتى صدور بيان بعد سقوط نظام حكم البعث. البيان يطالب السجناء والمعتقلين المطلق سراحهم بالعودة الى دوائرهم والمباشرة في العمل. أخبرت الحزب بذلك وحصلت على موافقة العودة الى الوظيفة حيث كنت مدرساً في ثانوية المجر الكبير في محافظة ميسان وقبل ان التحق بالعمل، حققت لقـــــاءً بين الشهيد (زيدان) والمرحوم (انور طه) والتحقت بالعمل وانقطعت علاقتي بالشهيد فترة طويلة. لكن كنت أتابع تدرجه في صفوف الحزب وعلمت انه احتل مواقع متقدمة آخرها عضو في منظمة المنطقة الجنوبية المشرفة على المحافظات (البصرة وذي قار وميسان)
5- ما حدث في غرفة معاون مدير الأمن:
بعد انقطاع طويل كما ذكرت زرت الشهيد في بيته في قرية الشاهين احدى قرى الشرش السبع بعد أن أطلق سراحه وتحدث عما دار بينه وبين معاون مدير الأمن اذ قال:
- يكاد لم يغلق الباب من خلفي عندما دخلت على معاون مدير الأمن (أحمد الخفاجي) حتى شعرت بضربة قوية من الخلف على مؤخرة راسي، اختل توازني وكدت أقع أرضاً، بعد اتزاني وبدون تفكير سددت الى المعاون ضربة قوية على خده الأيسر بقيت آثار أصابعي على خده حتى نهاية اللقاء، لم يتوقع الضربة فاضطرب على أثرها وبان انفعاله واضحاً. ويبدو انه لم يتعرض لهكذا ردة فعل فيما سبق.
ثم بدا أنه غارق في التفكير بعد أن طأطأ رأسه . بماذا يفكر؟ لا أعلم.
قلت في نفسي ليعمل ما يريد فقد أخذت بثأري وليعمل ما يشاء. بعد لحظة أشار بيده الىّ
وقال: اجلس ثم دق الجرس وجاء الشرطي وقال له: (جيب شاي للرفيق). ثم قال أنا آسف لم آخذ بنظر الاعتبار علاقاتنا الجبهوية، فكان ردي عليه: لا داعي للأسف فقد كانت واحدة بواحدة، واضطرب مرة أخرى وبعد أن هدأ، قال: أنت شيوعي، وأنا بعثي لنتحاور معاً حتى نصل الى أيّ من حزبينا يستحق البقاء.
- قلت له تكلم وأنا أسمع.
قال: تأسس حزبكم عام 1934 والآن نحن في سنة 1978، أي ان عمر حزبكم أربع وأربعون سنة وهو عمر طويل ورغم كثرة عددكم وكثرة الفرص التي سنحت لكم خلال هذه الفترة لم تستلموا الحكم لحد الآن.
أما نحن فعددنا أقل وعمر حزبنا أقل ولم تحصل لنا فرص مثلما حصلت لكم رغم هذا فقد استلمنا السلطة مرتين ألا يعني هذا انكم تخافون الشعب؟ عند استلام السلطة فيرفض مبادئكم وقيمكم وبالتالي يموت حزبكم.
- اننا لا نخاف الشعب لأننا جزء منه ولم نستعلِ عليه يوما، أما استلام السلطة فتحدد فترته الغاية من الاستلام.
- نحن الشيوعيين غايتنا من استلام السلطة بناء دولة مدنية ديمقراطية، عدالتها المساواة بين الناس وغايتها رفاهية المجتمع والعدالة الأجتماعية. وهذا لم يحصل الاّ اذا شارك الشعب بفاعلية في الثورة، ومتى يشارك الشعب بفاعلية للثورة؟ بالتأكيد اذا أدرك ظلم الحكومات المتعاقبة والمتمثل بسرقتها ثروة البلد وإعطاء الشركات النفطية فرصاً كبيرة لسرقة ما تبقى. ودورنا خلال هذا العمر الذي قلت أنه طويل هو تنوير الشعب وقد نجحنا نجاحاً واضحا في ذلك وأصبح الشعب يدرك الظلم الواقع عليه، ويدرك أيضاً الجهة المدافعة عنه لذلك احتضن ثورة الرابع عشر من تموز بحماس منذ يومها الأول.
أما أنتم فغايتكم من الوصول الى السلطة هو الانتقام من الشعب مثلما حدث في سنة 1963م. ويظهر انكم بدأتم الانتقام من الشعب مرة ثانية والدليل على ذلك هو وجودي معك الآن، ومثل هذه الغاية لا تحتاج إلى فترة زمنية طويلة بل تحتاج الى أن تمدوا أيديكم الى من يزودكم بالسلاح وآخر يزودكم بالمال لشراء ذمم الضباط الفاشلين، والصعاليك والموتورين من الشعب. والأهم من ذلك تحتاجون من يرسم لكم خارطة الطريق لاستلام السلطة وهم كثيرون الآن، لأن أعداء ثورة تموز ازدادوا عدداً وهذا ما حصل.
- هل تعني أننا عملاء؟
أنا قلت ما سمعته أنت، وإذا لم تصدق فقل لي من أين حصلتم على بندقية بورسعيد التي قتلتم بها الناس في الموصل وقتلتم شعبكم في بغداد والمحافظات الأخرى؟
- يبدو انك لا تفهم إلا ما يقوله لكم حزبكم.
لنتحدث عن موضوع اعتقد انك بحاجة إلى معرفته.
ثم بدأ يتحدث في موضوعات تثير الاشمئزاز والتوتر لما تنطوي عليه من أكاذيب ووقائع ملفقة. غايتها زعزعة ثقتي بالحزب وتشويه سمعة بعض الرفاق رغم مواقفهم البطولية المعروفة لدى الجميع.
قلت له: لقد صدقت يا أبا ماهر، عندما لا يتعاون الرفيق مع رجال الأمن يلجأون الى وسائلهم الخسيسة من أجل كسر شوكة صموده، لكنك أدركت غايتهم وعرفت أحابيلهم، فخرجت مرفوع الرأس بموقفك البطولي ومسروراً بجرأتك مع معاون مدير الأمن.
وسيذكر لك هذا الموقف الشجاع كل الرفاق ومعهم شرفاء شعبك والعالم.
لقد كنت صلباً في دائرة الأمن, إذن عليك مغادرة العراق أو على الأقل مغادرة البصرة.
- لي عائلة كبيرة وليس لي مورد غير الراتب.
- لن يموتوا جوعاً لكنك إن لم تفعل ستموت بحقد البعثيين. طأطأ برأسه وكأنه لا يملك الرد ثم قال أنا الآن مجمد حزبياً لمدة ستة أشهر جرياً لتقاليد الحزب أي لا أزاول العمل السياسي وهذا ما يريده البعث الآن. وبعد هذه الفترة سآخذ رأي الحزب في مغادرة العراق أو البقاء. ويبدوا أن البعث لم يمهله ستة أشهر فاعتقل مرة ثانية وأعدم في 18/7/1983, وجاءت شهادة إعدامه دليلاً آخر على بطولته.
لا يساورني الشك ان زيدان عــــــاش بطلاً ومات بطلاً، وظل يناضل حتى في قبره! مهلاً لا تستغربوا!. ألم تسمعوا بالرفيق (عبدالرحمن مزعل الشمسي) دفن في قبره والى جواره هويته الحزبية. خاطب ربه ياربّ: عملت بنصيحتك، فأحببت الناس جميعاً، والى جواري شهادة المحبة، فقربني إليك كما وعدتنا على لسان نبيك المسيح.
نم قرير العين أيها الشهيد. حزبك منتصر وأعداؤه انهزموا. هزيمة الجبناء لا هزيمة الشجعان. يكفي أن تعلم ان قائدهم الأوحدُ اختفى في حفرة ضحك عليه العالم كله عندما خرج منها.
نم أيها الشهيد حزبك رايته عالية، تقبلها الشمس بأشعتها الوردية صباح كل يوم وتعانقها الرياح طول النهار فترقص يمين يسار، وتغني: غداً يتحقق حلمنا الجميل: وطن حر وشعب سعيد