اعمدة طريق الشعب

خبير روسي حاذق / قيس قاسم العجرش

قبل سنوات لا أعرف عددها، كنت (كمهندس) عُضواً في فريق صناعي تولّى مهمة تأهيل أحد الخطوط الإنتاجية في مصنع حكومي.
المصنع الآن أقفل أبوابه ويعجّ بالعاطلين والمفصولين السياسيين المُزيفين الذين حصلوا على كتب تأييد مفبركة من الاحزاب الحاكمة اليوم, المهم واجهتنا مشكلة تتلخص بـ: كيف نقلل من إنحراف قياسات المُنتج عن التصميم الأساسي؟
كان المصنع ينتج مُنتجاً نمطياً هو محرّك كهربائي (ماطور) لمختلف الأغراض. وكان المُنتج الأوّلي يمرّ بعشرات العمليات المتتابعة، وفي كلّ واحدة من هذه المراحل ينحرف(ضمن الحدود المسموح بها) عن القياس قليلاً. لكن الانحراف يتراكم!، ويؤدي في المراحل الأخيرة الى خروج فعلي عن القياسات. وهنا يحدث التوقف، فيصبح المنتوج فاشلاً ونفشل نحن معه!
أحد قدامى الفنيين(غادر الآن عالمنا الى عالمٍ أقلّ في انحرافاته)، قدّم لي نصيحة أظنّ أنها نصيحة العُمر. قال لي:»استادي.. إرجع للخريطة القديمة، وطبّق القياسات بلا تساهل، وبلا سماحية.. وإرجع بالمنتج بعكس الإتجاه على الخط.. راح تلكف الخلل».
قلت له ببساطة :»من يضمن أن تنجح هذه الخطة؟»
فأجابني بأن خبيراً روسياً درّبه في السبعينيات واجه نفس المشكلة، وكل ما فعله انه عاد بالخرائط يتتبع المنتج. وفي كلّ مرحلة كان يقلل من (تساهله) تجاه السماحيّة المعيارية بالقياسات، النتيجة أنه وضع يده على مفصل يشكّل 90بالمائة من المشكلة، أما الباقي فسيكون أمره سهلاً حتماً.
نقلت النصيحة الى زملائي في الفريق، فانقسموا بين رافض ومتحمّس. الذين رفضوا احتجّوا بأن (القياسات ما زالت ضمن السماحية) ، فلماذا نفحص مرّة ثانية؟ ولماذا نضيّق من السماحية؟.
أما الذين تحمسوا للفكرة، قالوا: إننا وصلنا الى عجز فعلي عن إصلاح الخلل. لماذا لا نراجع السماحيات؟ بل ونلغيها بالأصل؟. ونلتزم بحذافير القياسات في الخرائط.
إتفقنا في النهاية على تتبع المُنتج بالاتجاه المعاكس(يعني نبدأ من آخر مرحلة ونضبّط قياساتها، ثم نفحص، ثم نرجع للمرحلة التي قبلها ونضبّط قياساتها ثم نفحص، وهكذا).
لم يستغرق منّا الامر سوى مرحلتين حتى عثرنا على الضربة (المَطَب) التي كانت تسبب انحراف المنتوج. صحيح أنّه كان ضمن القياسات، لكن توجّب علينا تأهيل ماكنة واحدة فقط وتضبيطها كي يعود الخط الإنتاجي كلّه الى العمل بصورة مقبولة.
ماكنة واحدة فقط ! كانت تحتاج الى صرامة في الضبط ودقّة في المعايرة، بدلاً من تضييع الجهود على تضبيط 25 ماكنة أخرى.
أحد أعضاء فريقنا قال وقتها: إنها الطريقة الروسية العظيمة للحل!
فقلت: لا.. إنها الطريقة التي فرضها المنطق، كل ما هنالك أن الخبير الروسي الذي سمعنا عنه ولم نُعاصره، اتبع المنطق.. فقط.