اعمدة طريق الشعب

أطباء ...خمس نجوم ! / د. سلام يوسف

نتحدث عن مجموعة أصبحت غير قليلة من الأطباء، ومع ذلك فهناك من بقى متمسكا بالقيم الإنسانية والوطنية والروحية التي ترفض التعامل على وفق التمايز الطبقي بين المرضى.
نعم، كثيرة جداً هي ظواهر ومظاهر الحياة في عراق المحاصصة (عراق البديل الأسوأ ما بعد زوال نظام صدام المقبور)، فقوانين وضوابط تلك العلاقات الاجتماعية إما معطلة أو أنها انحرفت بدرجات متفاوتة من الزوايا عن القيم والأعراف لكل أنشطة الحياة. وغاب الكثير من القيم والضوابط أيضاً لأن الثوابت هذه المرة قد تعرضت للمساومة والابتزاز، وأصبح مظهر التوجه العام وكأنه بأجمعه تجاري وحاولت الكارتلات أن تنقل العلاقات الاستغلالية الشائعة في الأنظمة الرأسمالية ومجتمعات السوق المنفلت الى مجتمعنا وقد نجحت الى حدٍ ما.
وفي ظل فقدان هيبة الدولة وعدم احترام القانون او التقيد به وغياب الرقابة الحقيقية وبالتزامن مع غزو القيم والمفاهيم الفاسدة في كل مناحي الحياة ومنها المهن العديدة التي تسيّر الحياة الاجتماعية، فالعراقيون اليوم يعيشون الفوضى الحقيقية، تتلاطم فيها السمسرة والاستغلال البشع، وأقرب في الشبه الى ما يسود الغابات من أعراف لا تحددها ضوابط.
وخير مثال على ذلك، مهنة الطب الإنسانية التي هي أولى المهن التي طالها الخراب وخرجت من جلبابها الإنساني الصرف وأصبحت للأسف سوقاً تجارية، سلعتها الأمراض وأدواتها العلم والمعرفة.
وإلاّ، فما معنى ان تصبح كشفيات بعض الأطباء بلا قيود ومنفلتة و(طاكة!!) ؟ ومن المسؤول عن هذه الظاهرة ؟ فلا برلمان يلتفت الى هموم المواطنين وقد تخلى الدستور عنهم وأخل بالعهد بينه وبين المصوتين عليه في واحدة من أسوأ الكوارث المجتمعية التي تتعرض لها الشعوب، ولا وزارة الصحة تحرك ساكنا ولا نقابة الأطباء تدلي بحديث ولا توجد في البلد جمعيات حماية المستهلك! لذا فقد انفرد الأطباء التجاريون وللأسف الشديد بالمريض وعلته وآهاته.
لقد ميّز الأطباء التجاريون والمنتفعون المرضى على وفق وضعهم الاقتصادي وعلى وفق إمكاناتهم المالية، عن قصد او غير قصد حينما أصبحت الكشفية + التحاليل + العلاج = مرتب شهر موظف بسيط او أكثر، بل أصبحوا يفكرون باختيار المناطق والشوارع (الراقية) ليفتحوا فيها عياداتهم، وليفتحوا العيادات والمختبرات الملحقة (!) بها، إضافة الى الصيدلية المعنيّة! وبذلك فهم حينما يفرضون أجورهم، لا يوجد من يتجرأ أن يقول لأي منهم "على عينك حاجب"!!.
أنهم أطباء خمس نجوم، أطباء خصوصيون لمرضى بعينهم، ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أطباء النخبة لمرضى (بعينهم) في المجتمع.
وبقدر ما نشعر بالمرارة إزاء الدَرَك الذي وصلت اليه العلاقة (النفعية) بين ممارسي مهن الطب التجاري وبين المرضى الى حد جعل الكثير من الأطباء المتمسكين بالقيم الإنسانية الرفيعة التي اقسموا عليها، يجدون أنفسهم يسيرون عكس الاتجاه او حتى يتركون المهنة.
إن هذه الظاهرة قد دفعت الناس نحو التوجه (القسري) الى العلاج اللا علمي والتعامل مع الحالات على أساس الأعراض والعلامات فقط، والتي أدت وتؤدي الى انتشار الكثير من الالتهابات المقاومة للأدوية، وكذلك تفاقم حالة آلاف المرضى جراء الاستخدام السيئ للأدوية والعلاجات، والتي بمحصلتها النهائية ستؤثر حتى على قدرة وطاقة الموارد البشرية في البلد. ولذا فكل متتبع للوضع الصحي والبيئي في البلد سيجده متهرئا متراجعا، وقد فقدَ الكثير من الإحصائيات العلمية الدقيقة والتي على أساسها يمكن وضع الخطط الصحية الإستراتيجية.
ان الحل يكمن في تشكيل المجلس الأعلى للصحة والبيئة من ممثلي لجنة الصحة والبيئة البرلمانية ووزارة الصحة والبيئة ونقابة الأطباء وأطباء الأسنان والصيادلة وذوي المهن الطبية والصحية وممثلي منظمات مجتمع مدني متخصصة في قضايا الصحة والبيئة، من أجل إعادة تقييم الواقع الصحي والبيئي للبلد وتقييم العلاقة بين المريض وطبيبه والعودة الى روح النص الوارد في الدستور والذي يقر، "ان على الدولة تأمين الرعاية الصحية الكاملة"، قولاً وفعلاً، مع تأمين الرقابة الشعبية خدمة لصحة المجتمع والمصالح الوطنية العليا.