اعمدة طريق الشعب

نهر الحياة .. نهر الظمأ! / عبد السادة البصري

في طفولتي وصباي اللذين قضيتهما عند تخوم البحر جنوب الفاو ، كنت ألعب وأقراني لعبة ( البحّارة ) حيث نقوم بصنع زوارق شراعية صغيرة لنبحر بها بين السواقي دافعينها بقصبة. إذ كانت الأنهار تفيض بالماء العذب لينساب بين السواقي والجداول متهادياً، وكنّا نقضي أوقاتاً جميلة ونحن نقلّد أهلنا البحّارة في رحلاتهم لصيد الأسماك . كانت الأنهار تمنحنا السعادة، ونحن نلعب ونسبح ونصطاد السمك بالصنارة !!
نعم كانت أوقاتاً جميلة نقشت لحظاتها بذاكرتي ولم تفارقني أبداً.
عدت اليها سارحاً وأنا أدخل مدينة البرتقال ( ديالى ) مدعواً من قبل اتحاد أدبائها قبل أربعة أيام للاحتفاء بي وبمجموعتي الشعرية الجديدة. كانت لحظات لا تنسى أبداً ، فأحبتي أبناء بعقوبة الطيبون كانوا في الانتظار وقد استقبلوني بالأحضان فرحين تعلو وجوههم الغبطة مرحبين بي وبزملائي الضيوف الآخرين ، لتبتدئ الجلسة بأغاني البحر والغوص وصيد الأسماك ، ما أعادني الى تلك الأجواء التي عشتها في طفولتي وصباي. بعدها تحدث المشاركون في الجلسة ليضفوا بهاءً ورونقاً في الحديث وهم يشيرون لقصائدي المشبّعة بأجواء البحر!!
تحدثت عن حياتي قرب ضفاف الأنهار، عن البحر ورحلات الصيد ، عن النوارس ، عن أغاني البحر ومواويل الطواشات ،عن النخيل وسوابيط العنب. وإثناء حديثي كانت تأخذني سرحات لصور شاهدتها عند دخولي مدينة ديالى ،حيث نهرها الذي كان يفيض عذوبة ومحبة بمياهه المنحدرة صوب الجنوب ، وسط بساتين البرتقال والحمضيات الأخرى، ورمان بعقوبة ،البساتين التي باتت لوحات فرح في الذاكرة لأن النهر الآن يبحث عن قطرة ماء. نهر ديالى الذي كان يروي بساتين بعقوبة وما حولها كي تمنحنا البرتقال والخضرة والجمال صار قاحلاً ، ينتظر المطر عسى أن تمنحه السماء بعض حنينها. نهر ديالى الذي تغنى به الشعراء وهم يسمرون على ضفتيه صار يحلم بجلسة سمر ، حيث شحّة الماء. شاهدته كئيباً يشكو الظمأ.
نعم أصبح النهر الذي يهب الحياة للناس والأشجار ظامئاً ، وشجيرات البرتقال جف نسغها، وقد تذكرت حينها مقطعا شعرياً لصديقي الشاعر إبراهيم الخياط في مجموعته ( جمهورية البرتقال ) فرددته وأنا أغادر بعد انتهاء الجلسة:
والذي كانت تزفّه النوارس
دهراً
هجرته الآن ..
حتى الضفادع ..