اعمدة طريق الشعب

أين رَباط الحكاية ؟! / فاروق بابان

في خمسينيات القرن الماضي، كنا تلاميذ على مقاعد الدرس، وكانت باحة مدرستنا واسعة، وجدرانها مزينة برسوم توضيحية وتوجيهية جميلة. وكان يعلو سطح واحد من الجدران لوح خشبي (سبورة)، يتوسطه من الأعلى عنوان دائم، وهو «حكمة اليوم».
كان معلم اللغة العربية قد اعتاد أن يكتب على وجه السبورة، كل يوم، حكمة توجيهية. وفي صباح يوم شتائي قارس، جذبت عيوننا حكمة علمتنا أمرا مهما، رافق مسار دنيانا وبات لصيقا بنا منذ ذلك الحين: «النظافة من الإيمان».
تسربت الحكمة الى دفاتر «الانشاء» بعد أن طلب منا المعلم أن نكتب عنها موضوعا. فقد قال لنا ان «هذا الموضوع مهم يا أولادي، ويشمل نظافة اللسان واليد، نظافة القلب، نظافة الجسد والملبس والمأكل والمشرب، ونظافة المكان. أكتبوا بأناملكم اللطيفة واحفظوا مني هذه الرسالة. الغد يأتي وأنتم رجاله..».
انسحبت ذاكرتي صوب ذلك الزمن الجميل، رغم بعض ندبه السوداء. فوجدت كلمات معلمي لا تزال مضيئة في دخيلتي، وتذكرت مدننا التي كانت نظيفة، وانساننا الطيب الذي يتحلى بالعفة والنزاهة، حتى جاء زمن التشويه. فهناك من يريد اليوم تشويه صور مدننا، وحتى تشويه الانسان وسلوكه، في الوقت الذي نجد فيه مؤسسات الدولة غير قادرة على تقديم واقع نظيف وجميل بكل مفاصله، سوى ما نشاهده من بصمات الشباب المتطوعين، التي نجدها واضحة في بعض الأماكن العامة النظيفة البهية.
المشكلة ان يد العبث وروح اللامبالاة والاتكالية لا تتوقف عن التخريب. فذات مرة كنت سائرا على رصيف الشارع المحاذي لـ»حي القاهرة» وسط بغداد، قبالة «جامع النداء»، وجدت عمود إضاءة ناهضا على الرصيف، وفي نهايته فتحة.. وهنا رباط الحكاية. فقد تحولت تلك الفتحة إلى حاوية صغيرة لجمع النفايات. هذا ما آل إليه حال الفتحة المخصصة لربط أسلاك الإنارة أو إصلاحها في حال تعرضت لعطب ما، إذ حولها العابثون المشوهون إلى سلة مهملات!
وأنا أشاهد هذا المنظر السلبي، تذكرت حكمة «النظافة من الايمان»، هي وغيرها من الحكم الإنسانية التي تنير العقل والدرب، والتي كان معلمنا دائبا على توجيهنا بها.
انه الشهيد المعلم عبد الجليل عبد العظيم، الذي علمنا كيف نواظب على النظافة بلا كلل ولا ملل. علمنا كيف نتذوق طعم الحياة الجميلة. حتى غادرنا شهيدا على أيدي قتلة ومجرمي انقلاب شباط 1963. لكنه لم يغادر ذاكرتنا، لكوننا حفظنا الوصية وصرنا رجالاً يدعون إلى النظافة في كل شيء.