اعمدة طريق الشعب

ورقة من بغداد / عذراء فائق عبدالله

عدت اليها بعد غياب طويل وحلم يكحل الغربة بساعة اللقاء.
لم اجد تلك الحبيبة التي غادرتها بملء ارادتي بعد ان احكم الحصار الاقتصادي قبضته على العراق في تسعينيات القرن الماضي. عدت وكلي امل ولهفة بان اجد اثر خطواتي اللاتي غرستها بين الازقة وعلى ارصفة الطرقات. كان شوقي يسابق سرعة الطائرة التي حملتني انا واولادي.
لم اتفاجأ بل فجعت بكل اشياء الحبيبة بعدما شوهتها الحروب. حبيبتي الانيقة النظيفة عبثت بها جميع اصناف الغدر والتخريب، وأتلفت فساتينها الجميلة الوان الصراعات.
سرت وسارت الى جنبي خيبة الامل، كل ركن يبكي وكل مفترق يسمع له انين اسلاك شائكة وجدران كونكريتية تعزل الاحياء وتحمل ساكنيها مشقة التواصل، وطرق مغلقة ومجتمعات صفيح ومخيمات مهجربن.
وجوه متعبة يئست من طول انتظار وازدحامات خانقة تطغي على مشهد المدينة، واكثر ما زادني ألما ووجعا صور الشهداء المعلقة على اعمدة الكهرباء في الجزرات الوسطية. وجوه لشباب كان يحلم بحياة كريمة ومشوار طويل ولربما كان ابسط امانيه موعداً مع الحبيبة.
كل ما يحيط بنا متأسف عليه، سماء باهتة واشجار صفراء، غبار يغطي الابنية والشوارع، نفايات منتثرة على طول الطرقات، اسلاك مولدات الكهرباء المتشابكة والمتدلية في كل جانب، باعة متجولون يغزون الارصفة، بناء غير نظامي وفوضى عارمة.
بغداد والشعراء والصور ذهب الزمان وضوءه العطر. يا مكملة الاعراس أين انتِ بين غربة الشعراء ومانظموا ونثروا. نراها تغسل همومها ونكباتها مع نسيم كل فجر يطل، منكسرة يكسوها ثوب الحياء ويزيد حمرة وجنتيها الخجل.
بغداد نهرها كوجهها الحزين يحمل ملامح القهر ويروي اساطير الاولين والآخرين، من غابات الموصل الى نخيل البصرة. لكل موجة قصة ولكل قصة صورة لحب التراب والدفاع عن شرف الحبيبة.
يا شواطئ العاشقين راسلينا بما تكتمين، كنت مرآة للمحبين واليوم تفوح منك رائحة الموت التي علقت بثياب المغدورين.. كيف بدل وشاح وجهك الوضاح وافل نجمك.. يا درة على مر السنين؟