ادب وفن

النص الروائي بين الواقعي والمتخيّل (1- 3 ) / جاسم عاصي

توطئــة

التعامل مع التاريخ، واحد من الإشكاليات التي تبرز في خضم كتابة رواية تعتمد على الواقع ولا تنسخه. بمعنى تكون لها خصوصيتها الإنتاجية المرشحة من رؤية منتجها وهو بإزاء تراتب أحداث في أزمنة. هنا يبرز سؤال: كيف يمكن المساس بالتاريخ من خلال سردية روائية دون الوقوع في حراك نتاج المؤرخ؟ وللتخلص من هذا التداخل ينبغي على وفق "بور ريكور" أن نعي إننا نتعامل مع وقائع في زمن، وزمن ينتج حراكا ً، من هذا يتوجب التفكير في خلق الزمن والواقعة من منطلق التخييل، لكي نحايث المؤرخ ونحافظ على هوية النص في كونه رواية. وذلك بالسير بالنص وفق منطق "أرسطو" في الشعرية التي عليها النص. فالروائي يتفرد بحبكته عن المؤرخ، وهو أيضا ً عليه أن يتخيّل الوقائع ولا ينساق إلى مسارها الذي ولدته مجموعة صراعات يتوجب على المؤرخ أن يشحذ مخيلته أيضا ً في خلق حبكات أحداثه، لكي يتوافق مع بنيته الايديولوجية، فالتاريخ مكتوب على وفق الايديولوجية في كثير من مفاصل المدوّنات، على العكس من الناتج الروائي فأنه يخضع إلى ما هو متخيّل من وقائع التاريخ. فالعلاقة مع الماضي تنتظم من خلال وعي حراك التاريخ أولا ً، ثم وعي معرفته عبر مكوّن ذاتي له علاقة بالشعرية لغة وأسلوباً، أي محددة بالرؤى التي تتشعب منها ممكنات النظر إلى المسار العام والخاص. فإذا توجب على المؤرخ أن يتكئ على التخييل باعتباره عماد تنظيم الأحداث وتحبيكها، فإن الروائي يتعامل مع ذلك من خلال وعي طبيعة نصه، في كونه يعمل على صياغة تحبيك من نوع آخر يخضع بنيويا ً إلى التخييل ولا يجد منه فكاكا ً، ذلك من اعتبار مقولة؛ إن المؤرخ يرى ويدون ما لم يدونه الروائي، والروائي يرى ويدون ما لم يدونه المؤرخ. وبذلك يكون لكل منهما وظيفته في التعامل مع الوقائع التاريخية.
أما ما يخص مبحثنا هذا ونحن بصدد قراءة رواية عراقية هي رواية "السيد أصغر أكبر" للروائي "مرتضى كَزار" نرى أن روايات عراقية كانت قد تعاملت على وفق خصوصيات تعاملها مع التاريخ من أمثال "ما يتركه الأحفاد للأجداد لغازي العبادي، ومن يفتح باب الطلسم ومعظم روايات عبد الخالق الركابي ورواية سيد القوارير لحسن الفرطوسي، وجاء متأخرا ً لعلياء الأنصاري" وغيرهم. لكن من الملاحظ على هذه الروايات، بالإضافة إلى كونها تتناول الأحداث من منظور خاص، نراها تـُحدد مسار هذا النظر، وتحدده في كونه ينطلق من الهامشي من الأحداث لتحقيق مركزيتها . وبهذا كانت صياغات الأحداث متكاملة في صورتها بحيث شكّلت وحدة من مجموع وحدات الواقع في تماسكها وحقيقتها. فهي غير منفصلة عن التاريخ سوى من زاوية نظرتها المحددة بالتخييل للواقعة.

المتخيّل السردي

حين نذكر مثل هذا التوصيف في الكتابة الروائية ، إنما نعني حصرا ً ما اندرجت عليه رواية "السيد أصغر أكبر" للكاتب مرتضى كَزار. ذلك لأنها رواية اختارت طريقها في الكتابة على محور ما ذكرنا لتحقيق هويتها السردية. أجد أن الروائي له تجربة في كتابة هذا النمط في روايته "مكنسة الجنة". هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان سعيه هذا ــ كما أرى ــ له علاقة بالمشهد الروائي الذي يمارس كتابته الروائيون الشباب من أمثال "علي عبس خفيف، ضياء الجبيلي، أحمد سعداوي، ضياء الخالدي، محمد الحمراني، حسين عبد الخضر" وغيرهم ممن طرحوا تجاربهم الجادة ما بعد 2003 محددين تجاربهم في الكتابة على وفق رؤى ذاتية ومعرفية واعية ذات محمولات ثقافية أعانت المنتِج للرواية في اتساع رؤيته . ولعل نص "مرتضى كَزار" له ميزات ذاتية وموضوعية واضحة من خلال تعامله مع المفردة التاريخية في تحقيق رؤيته للمكان وللزمان وفي هذه الرواية حصرا ً في كونها تتناول سيرة مدينة بالرغم من عدم تجنيس الكاتب لنصه. غير أننا نضعه في حقل السيرة للمكان والزمان في تاريخ مدينة النجف التي سعت الرواية إلى أن تـُداخِل بين الواقعي والمتخيّل وهي تطرح مدونة المدينة. ففي المكان حاول الروائي أن يقترب من المكان الواقعي بمسمياته الماضية والماضية، ويتماهى مع ما حدث فعلا ً من وقائع، وبين ما دفعه خياله لصياغة متن لها. وبذلك كانت صورة المدينة مكانا ً حاملا ً لهوية مركبة وصاعدة بالواقعي إلى مصافي الأسطوري ــ كما سنرى ــ أما في الزمان، وعلى حد تصورات ( ريكور ) في كونها اندمجت مع الزمان من خلال الاعتماد على مفاصل تاريخية أفرزتها الصراعات بين السلطة والنماذج الشعبية من قاطني المدينة، لاسيّما سلطة الأجنبي والانتفاضات الشعبية ومجمل مكوّنات البنية المكانية والمعرفية في تأريخ المدينة الشعبي والمدني، متخذا ً من رموزها دالات واضحة على ما يعنيه ضمن المتن الفكري المنبثق من واقع حراك المدينة الثقافي والعرفاني. إن استحداث تاريخ شعبيي ورسم نماذج متخيلة أسهم بشكل كبير في صياغة أمكنة وأزمنة رفدت المكان والزمان الواقعيين بمعينات معرفية، أدت إلى صعود النص باتجاهات مختلفة، وخاصة الأسطوري منه ــ كما سنتناوله لاحقا ً ــ . إن أزمنة النص خلقت حراكا ً رفد المنطق التاريخي للنص ، ثم أسس لبنيات أمكنة متخيّلة . صحيح أن الأمكنة التي كانت من نتاج مخيّال السارد أو الراوي للأحداث ، إلا أنها أمكنة موطوءة ساهم المخيّال في إحداث تراكم كمي عليها ، مما خلق النوع لصورة المكان ، ذي الخصائص المواكبة لأمكنة المدينة ، ذات التاريخ العريق الموغل في القِدَم . وهذا ما اتضح أيضا ً من مجموع ما سُلِطَ على المكان ــ المدينة ــ من ثـُقل لمحو الذاكرة المكانية والمعرفية بما يوازي ويجمع من خصائص دالة على الهوية السردية للمدينة وتأريخ الجماعات.

الأسطورة والحكاية وما بينهما

إذا كان "هومي بابا" قد أكد على إن الأمم مثل السرديات تفقد جذورها في خضم الزمن وأساطيره ولا تستعيد أفقها إلى في الخيال، فأن مرتضى كَزار قد صمم حكاية مدينته التي أخذت نسبة كبيرة من عمارتها المكانية والمعرفية التاريخية من الخيال. أي أنه استعاد تاريخ المدينة من خلال تشكيل بنية جديدة للتاريخ والتدوين. وهذا التشييد كان لزاما ً عليه أن يرتكز على مخيّال الجماعة التي تؤسس أمكنتها وعلاقاتها الاجتماعية، وبما يقترب من بنية الأسطورة. فخضوع المكان المقترن بالزمان معنى، يعني العمل على أسطرة كل ما يتعلق بالمدينة. وهذا الفعل يقود بطبيعة الحال إلى تشييد نوع من الأسطورة التي لا تموت عبر الأزمنة المتعاقبة، بقدر ما تحيى وتنشـَّط عبر تعاقب الأزمنة. فكلما كانت الأزمنة متشابكة في بنيتها، وبالمقابل يكون المكان تحت سلطة المحو، تكون الأسطورة حاضرة. ذلك لأن ذهن الإنسان في مثل هذه الحالات يجنح إلى الطفولة البشرية وما أنتجته من مسار في خلق أساطيرها وحكاياتها، التي فسّرت علاقات الكون وصراعات عناصره.
إن اعتماد هذا النمط من الإنتاج لم يكن ــ كما نراه من خلال النص ــ هروبا ً من إمكانية رصد وقائع التاريخ، بقدر ما كان خاضعا ً لمكوّن الذهن الروائي في كونه يُحدث مقاربة بين التفاصيل المنسية، أو تلك التي انمحت من على وجه الطُـُرس حسب "جينيت" ليكون لها إشارات منها تؤكد حقيقة ما هو متخيّل . وقد تم ذلك من خلال السند التاريخي. فسيرة المدينة في نص "السيد أصغر أكبر" لم تكن من بناة الخيال فقط، أي أنها لم تكن مدينة اليوتيبيا الغامضة كما فعل الكاتب "حنون مجيد" في رواية "المنعطف" بل هي مزيج من التصورات وتداعيات الذهن الروائي، وبين ما أكده تاريخ المدينة في الواقع. بمعنى كان لبنية الأسطورة التي شيدها الكاتب تمتلك حيويتها عبر اعتمادها على حراك وصراع كان نتاج لتاريخها ذي المساس بتاريخها عبر الأزمنة. لاشك إن المدن تعرضت للانمحاء عبر التاريخ. ولعل مدينة "أور" واحدة من المدن القديمة التي كان لها نصيب من الرثاء كمندبة لها من قبل قاطنيها، و"السيد أصغـر" هنا هو صوت الرثاء المُستعادة هيبته ومركزه في النص. صحيح أنه نموذج متخيّل، لكنه تشكّل من خصائص وصفات مجموعة من الشخصيات في واقع البنية التاريخية، ولها مؤشراتها في مقاومة من حاول تجريد المدينة من خصائصها الذاتية. لذا كان التعامل مع المفردة وتشكيل مجموعة من المفردات، يعني العناية بتاريخ المدينة، والحرص على عدم تبديه مثلما عملت وتعمل عناصر المحو، فالترميم يعني الاستعادة، وملء الخروم بالاستعانة بالخيال، يؤكد حرص السارد أو الراوي على حراك النص التاريخي، في خلق صورة جديدة مصاغة بمقياس وحدات واقعية سردها المدوّن للتاريخ، وبهذا تكون الأسطرة هنا بمثابة الفعل الداعي لاستكمال مدوّنة المدينة، عبر قياس الأحداث المكملة بمقياس ما تؤكده الجماعات المتخيلة ومركزتها في الفرد باعتباره الصوت البادئ في الاحتجاج. وقد كان للأسطورة في النص تواصل استعانت من خلاله تعويض حبكة جديدة لنص مبتكر، اعتمد على المسكوت عنه في التاريخ، ومحاولة الصعود إلى مستويات متفاوتة خضعت لقدرة المؤسطر للأحداث، ومحاولته اجتراح أسطورة نموذجه، سواء في الشخصيات أو الأحداث ثم الأمكنة المزاحة خصائصها.
من هذا عمل النص على صياغة سيرة المدينة من أجل خلق الثوابت المتخيّلة التي من شأنها تحقيق تاريخ غير مشوب للمدينة. ولعل الحكاية والأسطورة نمطان مؤثران في خلق بنية النص. فهما يصبّان في مركز خلق المكان والزمان في النص وحراك الحيوات داخل منظومة تستشرف خصائص جديدة للمدينة. وقد عمل على هذا الكثير ممن كان ديدنهم ابتكار سيرة المكان على نحو متماثل مع التاريخ والتاريخ الشعبي للجماعات.
في هذا أجد أن الروائي وهو يستحدث مدوّنة لمدينته، نجح في أسطرة بعض فواصلها مستفيدا ً من طبيعة مخيلته غير الفائضة، بل المتوازنة والراكزة في مجال الخلق والابتكار.

دلالــة العتبات

تتشكل رؤية النص ما قبل الدخول إلى المتن، من خلال عتباته. ولعل ما تفرزه الذات المنتجة للنص يبرز من خلال ما وفرته من عناية بتلك العتبات. و"مرتضى" في روايته ابتدأ بإحداث انزياح منذ صورة غلاف الكتاب الروائي. فاللوحة صورة من إنتاج فنان الفوتو "جمال بنجويني" وهو من الفوتغرافيين الكرد المتميزين في هذا الفن. والصورة مجتزأة من صورة كاملة لامرأة، إذ عمل مصمم الغلاف على اجتزاء صورة الصبية الحاملة للدمية، والمختفية بسواد العباءة. هذه الحشمة التي ظهرت عليها الصبيّة وتشبثها بالدمية، هو إحالة مقصودة لمحتوى النص. فالبراءة الواضحة التي تظهر على الصبيّة تعني إشارة إلى صورة المدينة المتماثلة مع براءة الطفولة. وبهذا تلقينا شفرة تؤكد براءة المدينة وحشمتها ، والتي تـُسهم مرائيها في تشكيل صيرورتها الذاتية الكامنة كإشارة في براءة الصبيّة التي تـُسدد نظراتها إلى ما هو أمامها. فمن منطلق الطفولة تبدأ المدينة سيرتها. أما العنوان "السيد أصغر أكبر" فيعني في السيد نوع من تكريم النموذج، ليس فقط عبر نسبه، وإنما من خلال توالي المفردتين الدالين على مرحلتين من سيرة النموذج في الماضي والحاضر، فأصغر إشارة إلى الماضي للنموذج الذي هو مركز النص الروائي، وأكبر تعني بلوغ نضج السيرة وقدرتها على تشكيل التاريخ السيري للمدينة. فثمة وشائج تلازم الاثنين لتحقيق جدلية الإنشاء والمواصلة. أما عبارة "حذار من الأخطاء المطبعية يا بنيّ، تمهـّل وأنت تكتب اسم دوائي وسيرة حياتي وعناوين أصدقائي القدامى" وبتوقيع "الجنرال باشيرو" لهو دلالة تؤكد على نموذج "السيد أصغر أكبر" باعتباره المدوّن والشاهد على تأسيس المدينة ، ورأسها المفكر بسبب ارتباط حياته بالمطبوع ، فهو يمتلك مطبعة استطاع بواسطتها كتابة تاريخ المدينة، وما محاولة البنات الثلاث سوى استعادة مفردات الذاكرة، التي تعني من خلال إعادة فعل المطبعة، ثم استعادة وحضور السيد في ضمير السرد والروي. وما التداعيات التي تخلقها ترتيبات الحروف، إلا نوع من التدوين وفق تصورات جديدة، لأحداث سابقة ولاحقة، تؤكد جدلية الوجود منذ الأزل.