ادب وفن

رواية "الانهيار" بين المتجانسات واللامتجانسات السوفياتية! / جاسم المطير

حين تقرأ رواية الانهيار تتوقف عند النقطة التالية : ظلال وأحداث سياسية متلاحقة تشكل خطوط الطول في الرواية. عواطف مكثفة، نوايا فردية وجماعية في الخير والشر، أحداث جرمية متتالية .. تشكل خطوط العرض في البناء الروائي وتنسيقه التكنيكي .نعرف كم هي بسيطة " رغبة، كتابة، الفكرة " لكن كم هو صعب خلق التناسق بين الرغبة وممارستها بمستوى عمل روائي مؤول من تجربة سياسية معينة هي في " الانهيار " تجربة الاتحاد السوفياتي .
توصف الرواية ـ أي رواية ـ في أحد جوانبها بأنها أحد طقوس متعة القارئ ..
فأما ان تجعلك قراءة الرواية متخشبا وإما ان تكون متمتعاً ..
فما الواقعة الطبيعية والتلقائية التي خلقتها عندي قراءة هذه الرواية برغبة محكمة بآلية النقد..؟
ما هي ذاكرة الرواية وما ذاكرتي عنها..؟
أقول أولاً أن رواية " الانهيار " هي رواية مهتمة أساسا بتعدد معانيها السياسية، خرجت من بين يدي كاتب، فنان ، ناقد ، بتكوين عقلي ـ روائي ـ فني ولم تخرج من يدي باحث سياسي أكاديمي.
من هذه النقطة استطاع الدكتور أحمد النعمان أن يتجاوز الوقوع في تقريرية السياق الروائي. أتذكر هنا تحذير ماركيز من " أن الحفرة موجودة أمام كاتب الرواية السياسية.." وتحذير ماركيز آت من تجربتيه في كتابة عمود صحفي سياسي يتابعه قراؤه، وروايات تخلب لب جائزة نوبل .. انه يخشى دائماً وقوع الرواية بضربات العمود الصحفي السياسي..
في عام 1905 كتب مكسيم غوركي روايته السياسية عن نشوء الثورة التي أفضت الى نشوء مدرسة " الواقعية الاشتراكية في الأدب والفن " وبعد مائة عام يكتب د. أحمد النعمان روايته السياسية عن " انهيار الثورة " فهل أعلن انهيار الواقعية الاشتراكية ..؟
هذا أول سؤال فرض عليّ مراجعته .
بغض النظر عن بعض ملاحظات سأذكرها لاحقاً في سياق موضوعي ، أشير أولاً الى أن الكاتب لم يتوقف ـ روائياً ـ في معالجات نقدية جامدة لموضوعة التبعية السياسية، ولم يتوقف ـ سياسياً ـ في معالجات سياسية أو اجتماعية جامدة لموضوعة التبعية الروائية. وإنما خرج به واقعه الروائي في رؤية منهجية منفتحة عن المجتمع السوفياتي الشمولي بخلاصة " كل شيء معقول في مجتمع غير معقول " .. بمعنى أنه استخدم الرؤية الوجدانية الرومانسية في نقد " الواقعية الاشتراكية " في عصر أكثر تنويراً وبسعي أكثر جرأة. بذلك هجر العديد من القوالب الجامدة الت? صاحبت دراسته الأكاديمية ذاتها في الجامعات السوفياتية أيام كان طالباً فيها..
رواية " الأم " لمكسيم غوركي هي رواية متكاملة التكنيك بالمعنى الأدبي رصدت متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية خلال أحداث الثورة الروسية باسطة المسببات والنتائج دون أن يقع في " حفرة " التحليلات والتفاصيل البحثية ..
رواية "الانهيار " للكاتب العراقي أحمد النعمان، رصدت متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية لما بعد نجاح الثورة الروسية وتطورها حتى بلوغها درجة " الكمال " التوليتاري ..! وقد صاغ أحداثها بعين الصحفي المراقب الذي عاش أكثر من ربع قرن شاهداً على تراجيديا سجلها لاحقاً في روايته ..
الشخصية الأساسية في رواية الأم كانت (أم بافل) وهي محدودة الوعي السياسي بل لا تملك أي مستوى من الوعي السياسي كما ليس بمقدورها أن تفهم معاني الثورة والأعمال الثورية غير أن عواطف (الأمومة) وحدها هي محرك أحداث الرواية .
أما الشخصية الأساسية في رواية الانهيار فهي متجسدة بالسفاك (جيكاتلا) الذي قتل 53 انساناً خلال مدة زمنية معينة وهو سليم العقل واع تماماً لما كان يفعله مقدراً تأثير ذلك في الواقع السياسي والاجتماعي، وإذا كانت (أم بافل) قد أظهرت وبرهنت قوة الثورة وعمقها ، فأن (جيكاتلا) قد أظهر ضعف الثورة في مرحلة عليا من تطورها كما أظهر أبرز نقاط أنحرافها ..
وإذا كان مكسيم غوركي ومن بعده تلامذة الواقعية الاشتراكية قد أظهروا في أعمالهم الروائية العلاقة بين الفنان الثوري والسلطة الثورية، على أساس من الحب المتبادل فأن أحمد النعمان أظهر ، بشكل ما ، الكره المتبادل بين الفنان والسلطة التوليتارية .
في البنية الفنية لأفكار الرواية محاولات تجديدية عبر استرجاع الذاكرة الجمعية السوفياتية، ذاكرة الشعب وذاكرة النخبة، حاول بها المؤلف أن يكثف رؤياه ببلاغة ووعي معاصرين ، لاقطاً من الاحداث دلالاتها الأحيائية. ففي إشارات صغيرة جداً عن الشاعر الموجيكي (يسينين) القروي السكير جسد شكلاً من أشكال علاقة (الوعي) بالسلطة السوفياتية . فقد كان يسنين يكرهها ، وهي تكرهه بدورها لان كل واحد منهما كان " يعرف الآخر " بوعي متميز عال ..
غمرته السلطة بالتناسي لأنه كان شاعر الحب والنساء في زمن المد الثوري البروليتاري لذلك اعتقلت الشرطة أشعاره حتى انتحر ..
فيما تبنت نفس السلطة شاعر الثورة مايكوفسكي الذي كتب شعرا بلغة البروليتاري البسيطة ذات الشعارات الملتهبة والسطحية والذي اكتشف بنفسه وبحسه الشعري المرهف عقم القضية التي وهب شعره لها فعز على " مايكوفسكي الانسان " ان يخون " مايكوفسكي الفنان " فانتحر ايضا ..
القتل والانتحار إذاّ كانا موضوعات غامرة بالنسبة للكتـّاب والفنانين وغيرهم من أصحاب الوعي ..
تتناول رواية " الأنهيار " جانباً آخر من أعماق أجهزة السلطة السوفياتية ورمزها الأعنف (كي . جي . بي) التي غشيت اعينها في زمن طويل فصارت ترى الحر جانياً كي تترك الحرية للجناة الحقيقيين ..صار الجاني حراً في الاتحاد السوفياتي بينما القادة والحزب وأجهزتهما القمعية مشغولة بالمناقشات " النظرية " وبالتحولات التي كانت الأرقام والإحصائيات الرقمية تغشها وتخدع المواطنين بمعطياتها الصورية ..
تتوالى أحداث الرواية انعكاساً لتوالي الأحداث الجارية في المجتمع السوفياتي المرصودة بعين الصحفي العراقي (الأجنبي) أحمد النعمان في الأرض الشاسعة التي كانت تبتلعها ـ قبل الثورة ـ العتمة والجليد .. بينما تبتلع في أواخر عمرها ـ قبل أنهيارها ـ ذات العتمة مضافاً أليها حديد ونار ، حتى غدا الصنف الهستيري من المجرمين يسيرون قضيتهم كما يشاءون دون وازع من رقابة الشرطة :
فقدت المواطنة سافينا فوجدوا جثتها في البحيرة ..
قتلى وضحايا بأساليب عديدة متجددة ومتغيرة..
عصابات تسيطر على المخدرات وعلى الاطفال..
اتاوات ورشاوى في مختلف اجهزة الشرطة والحزب والدولة..
جرائم قتل مبهمة فاعلها غائب عن أنظار الشرطة ..
انحرافات وأخطاء في السياستين الداخلية والخارجية ..
أخطاء حزبية وصناعية وزراعية.
أخطاء نظرية ..
المافيات تخترق سلك الشرطة وتسيطر على قياداته ..
وتستمر أحداث الرواية متتبعة خطى بطلها جيكاتلا حتى يجد القارئ نفسه ، عبر واقعية الأحداث ومعطياتها ، أنه يساير فيلماً بوليسياً أمام عينيه في غرفة مظلمة ..
وتلك هي ، بلا شك ، التلقائية الوحيدة لمجتمع السوفيات الذي حاربت ثورته القمع في البداية فصار مقموعاً في النهاية ، وحارب الاستغلال بموجب نظريات الثورة فصار مستغلا بعد انحرافات الثورة . وفي كل الاحوال كان " البوليس " سيد المواقف ومحركها ..
تمكن الروائي احمد النعمان ان ينضج عملا يكاد يكون في جزئه الأعم من اختصاصات الباحثين الأكاديميين التي شاءت أن توقع د. أحمد النعمان في " حفرة " بعض الصياغات التقريرية ، لا الروائية ، من مثل : (تلك البدعة التي حولت روسيا من بلد مصدر للقمح والحبوب والمنتجات الحيوانية للخارج الى مستورد لها وبالديون..ألخ من ص14) لولا تداركه مثل هذه الحفرة التي واجهها في أكثر من مكان في مجموع العمل ..
بنى شخصية بطل العمل المنقاد بدوافع سايكولوجية او ربما حاول ان يصارع قوة التحدي القمعي بقوة التحدي الإجرامي مما سمح للمؤلف الخروج بدلالات فنية في رواية تناولت موضوعاً يتعلق بموطن هو غير موطن الكاتب ، ذكرني بما فعله الكاتب الروسي فلاديمير نابكوف الذي هاجر من روسيا الى بريطانيا وكتاباته الروائية عن مجتمع غير مجتمعه ..
من نجاحات البنية الفنية أنه منع حالة " التخشب " التي يقع فيها قارئ رواية سياسية بصفحاتها المائتين والثلاثين .. فقد أسر قارئه بمبدعات استخدامه لذكريات من عظماء الأدب الروسي بوشكين وديستويوفسكي والشاعر يسنين وغيرهم .. ومن خلال التجدد والتحول في رسومات المشاهد وحواراتها وليس فقط من خلال عمليات بنائية فنية متعاقبة ..
ختاماً أقول :
استحقت رواية الأم تقديراً من لينين عندما قال لمكسيم غوركي : لقد ظهرت روايتك " الأم " في الوقت المناسب . فأن رواية " الانهيار " تستحق أن يقال عنها أنها ظهرت بالشكل الفني المناسب في الوقت المناسب، مستفيدة ، إيجابيا ، من رؤى وخيالات وأساليب الواقعية الاشتراكية دون التبعية لها ..
بالنسبة لي وفرت الرواية طقوس المتعة كاملة في طول خطوطها وعرضها ..