ادب وفن

مناجل كاظم الركابي / محمد علي محيي الدين

صدر عن دار تموز للطباعة والنشر في دمشق ديوان الشاعر الراحل كاظم الركابي "مناجل" وهو الإصدار الأول والأخير للشاعر الكبير، والغريب أن مسيرته الشعرية الممتدة لعقود من السنين لم تنتج غير هذا الديوان الذي يمثل مرحلتين هامتين في الشعر الشعبي، مرحلة الصيرورة التجديدية التي حمل لوائها مظفر النواب، وتلقفها وأضاف إليها من تلاه من الجيل الثاني من المجددين أمثال شاكر السماوي- عزيز السماوي - عريان السيد خلف- طارق ياسين- علي الشباني وغيرهم الذين نحو بالقصيدة الشعبية منحى آخر ادخلها دائرة الضوء في اطر جديدة أغنت القصيدة الشعبية وجعلتها تأخذ مكانها في المشهد الثقافي العراقي، وجعلت من الشعر الشعبي ندا قويا للاتجاهات الأدبية والشعرية الأخرى، يسير معها جنبا إلى جنب وأن تجاوزها في الوجدان الشعبي لقربه من هموم الجماهير ومشاعرها وتعبيره عن مشاكلها ومعاناتها.
والمنحى الثاني في الديوان احتوائه على القصائد الغنائية للركابي التي كان لها مكانها بين القصائد المغناة ويمكن لنا التفريق بين قصائده العامة وقصائده الغنائية، فلكل منها خصوصيته وطعمه وتوجهاته، ويمكننا ملاحظة البعد الفني لقصائده عند المقارنة بين بداياته الشعرية بما حملت في طياتها من ألوان وصور لم تخرج عن المألوف في سياق القصيدة الحديثة، والقصائد التي أعقبت البدايات فيمكن لنا تلمس التطور في أدواته الفنية والتجديد في المعاني والاتجاه بشعره وفق سياقات التطور في المفردة والرمز، واكتناز الصور ومتانة البناء ودقة التركيب والاتكاء على التطور الشامل للأعمال الأدبية الأخرى التي ألقت بظلالها على تطور الشعر الشعبي ونمائه، والاهتمام بالمستوى الثقافي، وهندسة القصيدة وفق أطر مرسومة في ذهن الشاعر أبعدتها عن العفوية والسطحية والسذاجة التي عليها بعض القصائد الشعبية، وبالتالي دفعت بالقصيدة الى أمام في قفزة نوعية جعلتها في صدارة المشهد الثقافي آنذاك، واستطاع شعراء التجديد السمو بالقصيدة والارتقاء بها لمستوى أبعدها عن التقريرية والمباشرة، وجعل لها سمات خاصة وضعتها موضع درس وتساؤل للقارئ الذي يبحث عن جلجلة الألفاظ وبهرج المفردات والرتابة المملة.
ولشاعريته وعلاقاته المتميزة مع أقرانه من الشعراء، أصبح قطب الرحى في حركة الشعر الشعبي، وسعى مع شعراء آخرين لإقامة مهرجان للشعر الشعبي بمؤازرة الشاعرين جبار الغزي وعادل العضاض فكان المهرجان الأول للشعر الشعبي الذي رافقه مخاض عسير حتى تكللت الجهود بإقامته في مدينة الناصرية في 7-7-1969 لمدة ثلاثة أيام وكان مظاهرة رائعة حضره مئات الشعراء والمعنيين بالأدب والثقافة وساهم فيه كبار شعراء العراق، وشارك الركابي بقصيدته" چا بعديش" وهي ملحمة من ملاحم الشعر الشعبي تألق فيها الشاعر، وعرف من خلالها، بما حوت من صور فنية مبتكرة، ومفردات معبرة، ومعان سامية، تلتها قصيدته" مناجل" التي وسم بها ديوانه موضوع الدراسة، سبقتها أغنيته الخالدة" ينجمة" أبدع في تلحينها الملحن المبدع كوكب حمزة وأجاد أدائها المطرب الكبير حسين نعمة، وكانت مفتاح الشهرة لهذا الثلاثي، وكانت فتحا في الأغنية العراقية لحنا وأداء وكلمات.
والركابي أجاد صياغة الأغاني وبرع فيها، ومن جميل ما كتب في هذا المجال ينجمة وكون السلف ينشال، ويحمامة، ويمدلوله وڰصة المودة، وشلونكم وغيرها.
في قصائد الركابي تمتزج نكهة الريف، ورائحة البردي، وهمهمة أزقة وحواري الناصرية، وومضات الثقافة التي نهل منها وغرف من معينها، فهو قارئ نهم تشبع بمختلف الثقافات، واستقى منها ما غذى قصائده وجعلها مستساغة مقبولة في الأوساط المختلفة، واختار مفردات تميزت بدفقها المعرفي ودلالاتها الشفيفة، وعندما يكتب عن الشهيد الشيوعي عبد الخالق محجوب، يأخذ من أعضاء الجسم ودورته الدموية دلائل الانتماء الفكري واللون العقائدي الذي يمثله، بما يجعل القارئ يشعر للوهلة الأولى بمرجعيته الفكرية، فاليسار في دلالته السياسية يوحي للقارئ الا?تماء الشيوعي، واستعاراته هذه توحي بما يريد تقديمه من خلال الصورة وما في خيال المتلقي من دلالات:
چانو ﺑﮔلبي حبيبين
واحد بهل العين اظمه.. اواحد بهل العين
وچانت الغيره توج مابين الاثنين
عاتبتهم ...هي عيني واله چانت باليسار واله چانت باليمين
شفت ﮔلبي ايودي دمه اعله اليسار ومايودي اعله اليمين
وقصيدته"چان عيد" مزدحمة بالصور المتخيلة والمفردات الدلالية الموحية بما يريد إيصاله للقارئ، فالنجمة والحمام والبخور والأجفان المثقلة بالدمع دلالات رمزية يحاول الشاعر من خلالها الإيحاء ورسم صورة لطقوس الأعياد المثقلة بالمباخر والزهور والدموع وزيارة القبور وكلها تفضي في النهاية إلى أن الشاعر الملتزم يقول ما يريده غير مبال بما سيكون الأمر عليه لان القصيدة هي التي تثور وتجعل من الشاعر أسير فكره وقضيته ولا يمكن لشفاه الشاعر أن تكون خرساء عندما يحين أوان الثورة على واقع مرير:
چان عيد..
چان عيد.. وچانت أعيوني أبسفر
اتبوس دنيانه وتزور
جفن يهديلي نجمه..
وجفن يهديلي حمامه
وجفن يهديلي بخور
ولمه اجيتك ياجفن
عايدتني ابدمع..
وبشمع.. وڰبور..
ردت أعاتب..
جاوبتني أبنفس ذيچ الاسطوانة
صوتك الذابل يدور
أبد لا تطفر نهر.. ومشي ابدربك أشهور
بس اڰلك.. ألقصيده بساعة الدم
هيه عالشاعر تثور
ولا تظل ابشفه خرسه
ميته ما بين السطور
و"على باب الله" مشحونة بالكثير من الألم الطافح في ثنايا السطور واستذكار لحالات إنسانية لا يشعر بها إلا من عرف طبيعة الألم وعاش مرارة المأساة، وعندما تضيع الحقائق وتختل الموازين، وتتلاشى الرؤية، وتنعدم المسافات، تتعثر الأقدام في مسيرتها، وتتزاحم الأسئلة، لتصطدم بحقيقة الواقع ومرارته:
وين رايح.. ؟
على باب الله.. مو واحد كلهم ماشين
بس انه ابلا موعد أمشي..
خل نمشي اوياهم ياروحي.. اشخسرانين..
على باب الله
وتلاشت خطوات الناس
ناس اتعدت للحبوبي... وناس اخذت شارع عشرين
وانه وخطواتي ابلا شارع محتارين ؟ !
وضيعت العنوان اليطلع على باب الله
ورحت اسألهم يمعودين..
امنين أطلع ومشي الباب الله ؟
ظلمه الظهريه وما نندل.. مكفوف أيجر مكفوفين
وصحت أبصوت.. انذبحت من صوتي السجين
شفت أبعيني
باب الله بدمعة مسكين
وفي رائعته "المناجل" يبحر بنا الركابي في عوالم مختلفة تماوجت فيها الرؤية والرمز، وتتابعت الصور متزاحمة تتدافع لتأخذ مكانها في خيال القارئ لتبحر به في عوالم حافلة بدفقات متخيلة ممتزجة بواقعية تأخذ مسارها الكامل في انحناءات متعثرة بعيدة عن الضبابية، ومفردات تقود القارئ الى ما يريد الشاعر إيصاله بانسيابية رائعة:
لولي على مسعدك ﺒﮔﻭﻝ الذي ايريحه
وشرِّع ﺇرموﺸﮎ هله للمعتني ﺇبجرحه
لولي ﻠﮔطع النفس لولي لمن يصحه
أجرحني .. يمن عتبه ﺇلك .. جرح المُحب فرحه
الليل.. موش يحصد ليله يحصد صبحه
والحصو ..موش ﺇيحصِّد روحه ﺇيحصِّد جدحه
والبحر موش ﺇيحصِّد روجه ﺇيحصِّد ملحه
ومن أجمل ما كتب الشاعر الركابي قصيدته"بسكوت" التي كتبها عام 1971هذه القصيدة المشحونة بالدلالات الملحمية، والصور المتمازجة بمفردات شعبية تباينت في دلالاتها وتنوعت في توجهات، فكانت المفردة المدينية تداعب الحسچة الجنوبية لتلقي بظلال واضحة على ما يريد الشاعر إيصاله:
بسكوت .. مثل ﺒﭽﻲ الحلم بسكوت
مثل ضحك الحلم .. بسكوت
أحبك لا تظل مثلي ﻋﺸﮒ .. بسكوت
ﺃﻨﺍطر عاﻠﻀﻭه من ينسد الباب
وأخضرﱢ عالتراب البيه أثر جدمك ..
وأصيحن ياب
عطاب الهوه البسكوت ..عطاب
لاهو فرح .. لاهو دموع .. لاهو عتاب
علمني أغانيكﱢ حتى لوﭽﺍنت أغانيك ..عذاب
ماني أكيف عالجرح من ﭽف الأحباب
ولا يبقه اﻠﻌﺸﮒ بسكوت لا شباﭺ ..
إله ولا باب
لا شباﭺ إله ولا باب
هذا شيء من الركابي الشاعر، أما الركابي الإنسان فاترك لمن جايله من أصدقائه وعارفية بيان ما كان عليه من رقة ودماثة خلق ومودة واعتداد بالصداقة.