ادب وفن

عن "الطيور" في قصائد الشاعر ألفريد سمعان/ جاسم المطير

عندما انهيتُ قراءة ديوان ا(لطيور) للشاعر العراقي المخضرم ألفريد سمعان وجدتُ شعره ،كما اعتدتُ عليه ، ليناً ،هيناً، لذيذاً. يتمتع بخصوبة المعاني الشعرية، الوطنية والإنسانية . في كلمات هذا الديوان وجدت ألفريد يصيح : أنا طير إذاً أنا وطن..! وإذا كان ناظم حكمت قد قال : « أنا شاعر تركي، أنا الحمية والحماسة من الساق حتى الرأس ومن الرأس حتى الساق، كفاح ولا شيء غير الأمل، ذاك أنا» فأنني سمعت الشاعر العراقي ألفريد سمعان يقول في ديوانه الجديد :

أيتها الطيور

احملي أنفاسنا إلى بيادر الحب

الى خمائل اللذات

والجنائن المعلقة

نعم.. سمعته منذ نصف قرن يقول: أنا ألفريد سمعان تذوقتُ ملح الأرض العراقية مع أصحابي في النضال والمظاهرات وفي التنظيمات السرية والسجون.. أنا من لا يخشى رؤية النظرات الحادة لأعداء الإنسانية من الحكام الظالمين.. أنا الشاعر الذي رأى كل شيء على الأرض أكثر مما رأى ما في السماء .. أنا العاشق الأبدي.

في ديوان (الطيور) رأيته يتجه نحو (التعبير الحر) عن (الحب الحر) كرافد مليء بتجارب الفريد سمعان الشاعر العاشق تماما مثل وسيلته الغنية بالتعبير السياسي في كثرة من احداث العصر الصعب الذي عاشه منذ أربعينات القرن الماضي مما كان له الأثر الكبير في رسم انتاجه الشعري ومذهبه السياسي، الذي كان وما زال حتى الآن، لا يخلو من انفعالات نفسية لما يموج حول وطنه من احداث جعلته يلتقط أدق القدرات التعبيرية . ورغم ان السجون ،عادة، ما تظهر لدى الشاعر شعوراً بالتناقض والتمزق لكن ألفريد سمعان يبرهن في قصائده الاولى والوسطى وما جاء بديوانه الاخير انه يملك شعوراً داخلياً متيناً يعبر عنه بوجدانية حميمة في ديوان (الطيور) خصوصاً.

منذ زمان بعيد يواصل ألفريد سمعان البحث عن الحب وعن الجنائن المعلقة وقد كان خطابه الشعري ، منذ اكثر من نصف قرن ، خطابا مستتراً احيانا وعلنيا في اكثر الاحيان ،حسب درجات الحرية المتاحة في التعبير. لكنه في الحالين كان تعبيره قوياً وطليقاً سواء في تعبيره الذاتي او بتعبيره ذي الحيز الاجتماعي او السياسي. (انظر معاني قصيدة ترتيلة من الجنوب صفحة 93 ).

كل كلمة من كلمات الحب والعشق في قصائده أجدها في نهاية المطاف هي الكلمات الاكثر صفاء في مجمل اشعار الديوان الجديد .لا اضطراب فيها رغم ان الاضطراب احاط كثيرا بالسيرة الذاتية لهذا الشاعر لكنه ظل شكلا اصيلا في كل تجربة ، قادرا على مجابهة كل انواع المصاعب السياسية والاجتماعية التي تأسست في مراحل كثيرة من حياته لكن التضامن المشترك في اعماقه بين (الحب ) و(ألوطن) كان قادرا على تخليصه من مرارات الزوايا المعتمة في حياته السياسية والانسانية حتى غدت صداقته وساما روحيا يتمناه كل مجايليه بل كل من يريد ان يخلق لنفسه كراسة في المشهد الثقافي العراقي يتعلم منها كيفية الاستفادة من اشتغال الفريد سمعان بموضوعة حرية التعبير.

النظم ينمو عنده من قصيدة الى اخرى ، من مسرح اجتماعي او ذاتي الى اخر ، مكوناً لقصائد ديوانه حيوية وابعاداً قائمة على الضرورة اللغوية التي يحتمها التعبير الشعري المتحرر من الاستبهام :

تطرد الاوجاع في ليل الشتاء

تقتلع الاحقاد من جذورها

ونحتمي بسرها المهيب

حين يستغيث صوتنا من الجناة

وحين ينشر الرعب بطاقات الدمار

وتسفر الحناجر السوداء عن انيابها

وتغرق الارض بطوفان الدماء ..(انظر قصيدة اليك سيدة النجاة صفحة 53 ).

في هذا الديوان المعنون الطيور – الصادر عن دار الاديب في عمان الاردن - وجدت فتوة ماضي المناضل الشاعر ألفريد سمعان وصلابته بنوع من التجديد موجودة في قدرته على التعبير الذي يوازي اضعافا مضاعفة مما نزل بمجايليه من صعوبات وازمات .. وجدت انه الاب الشرعي لصبر الشاعر العراقي ولرؤاه ومطامحه ..قصائده كلها تتعلق بالحرية خارج الخطاب الشعري المستتر.. وجدت ترابطا وتواصلا ضمنيا داخل اطار الحرية كله، داخل اطار الفسحة الاجتماعية واطار الفسحة السياسية وهو يحدد ، لنفسه وللمتلقي، الكيفية التي تحدد حركة الانسان نحو الانسان، نحو مستقبل ينتمي الى مجالات الحب الانساني متميزاً بأعلى اشكال الشعور بتوكيد الذات كجزء من توكيد الروح الجماعية، التي يحتل فيها الانسان - عاشقا كان او معشوقا - مكانة شديدة الاهمية وهي مكانة الكرامة الانسانية التي تخلو من علاقة العبد والسيد، أي في مكانة ليس فيها سلطان طوائف السياسة ولا اوامر الحكام ولا الولاء للأقوى، بل تحقق غاياتها بالحب الانساني العميق . (انظر قصيدة نظل منك وانت منا ص 61 وقصيدة هديل العاشقين ص 65 وقصيدة يا انت ص 73 )

الاهمية التحليلية لأجواء الحب والعشق في قصائد الديوان تؤكد ان صوتها العام والغالب هو صوت العاشق الفريد سمعان الذي لم يصبح مخنوقا وان حياته الثمانينية ما زالت ناشطة وربما متجددة وان مفردات قصائده ما زالت متعلقة بليموزين الحب العذب والشوق الحار مؤكدا قدرته في التعبير لاقتحام تراث العشق الكبير في اعماقه ما بين العشق الخاص (المرأة) والعشق العام (الوطن) .

من خلال الدمج ما بين العشقين، العام والخاص، يتوصل الشاعر الفريد سمعان الى تحقيق النصر السيكولوجي في حبه للوطن وللمرأة في آن واحد رغم أنه دفع ثمنا باهظا في العشقين طيلة حياته التي واجه فيها كثيراً من المصائب والمصاعب، وقد ظل فيها على علاقة متسقة بين ضبط النفس وعمليات العشق الطويل.

في قصيدته الشرفة يتجسد هذا الضبط حيث يقول:

بعد ان انزع راسي من غطاء الوسادة الناعمة / واتحرر من المفرش الوردي/ اتوجه اليها / تحملني خطاياي بهدوء/ والنعاس ما زال يراودني/ ويشدني إليه / وبعد أن أسحب الستارة المرصعة بأجراس عيد الميلاد / اطل على الدنيا/ أغرق في طوفان الضوء / الذي طارد فلول الظلام / واعاد النجوم الى اوكارها/ بعد صراع عنيف / تواصل طيلة ساعات الليل / ونشر رسائله في كل مكان / لم يترك منزلا مهدما بفعل قنبلة موقوتة..ألخ.

اليوم ايضا في الوقت الذي فيه يبحث العراقيون عن مستقبلهم وجدت الفريد سمعان شاعرا غزيرا يحاول استعادة الروح الشعرية كي يضع قيمها في ارواح من يحبهم ومن يحبونه وهو لا يخضع لمفردات المبالغة الشاعرية المعروفة منذ أقدم العصور الشعرية ، من امرؤ القيس حتى نزار قباني، فقد بقي متقيداً في قصائد ديوان (الطيور) وفي غالب قصائده قبل ذلك بأصول انظمة الحب والعشق والاخلاص المتزايد للوطن وللإنسان الاخر ولآمال المرأة التي يعشقها ، وما شعره الا اثباتات وبراهين بارعة في التعبير الحر بلا خوف من الحب .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 30 – 5 – 2014