ادب وفن

بشار رشيد.. الطائر المصلوب / عبد العزيز لازم

إن تكريم الشهداء واستذكارهم من قبل الهيئات السياسية والإجتماعية المختلفة هو نشاط متواصل في كل المراحل لأنه اضافة للدواعي الانسانية، يعزز الثقة بالانجازات التي قدم الشهداء حياتهم من أجلها ويرسخ أركان التطور الذي يساهم في انجازه مجموع الناس أصحاب المصلحة في قضية تحقيق الأفضل في حياتهم . لكن يلاحظ ان هناك فئة شعبية مهمة قدمت تضحيات جمة في سبيل الشأن الوطني العام، هي فئة الرياضيين وبقيت في حاجة الى الاضواء التي تستحقها فيما يتعلق بتكريم شهدائها.

وبدا للإعلامي الرياضي عبد الرحمن فليفل وكأن هناك فراغاً ما في هذا المجال. لذا شعر بأن لديه ما يقدمه في تكريم الرياضيين الشهداء من أجل وطنهم. فأصدر كتابه حول واحد من أبرز شهداء الحركة الوطنية الرياضي الشيوعي بشار رشيد.
يقول «فليفل» عن ظروف اصدار كتابه: «... راودتني فكرة إصدار كتاب يوثق حياة هذا المارد، متشرفا بذلك ، لكي أضعه بين يدي القارىء كوثيقة تاريخية حرصت على نقلها بأمانة ودقة لتبقى مرجعا لمن يريد معرفة المزيد عن حياة هذا البطل، ورغم ان عددا من الزملاء قد سبقني بالكتابة عن بشار في مناسبات عدة، الا ان هناك الكثير من الخفايا لم يتم التطرق لها من قبل، وبقيت خافية على الناس والجماهير.» ركز الجهد التعريفي الذي احتواه الكتاب على الترابط بين الكفاءة الرياضية التي تمتع بها الشهيد والنضال السياسي الذي انخرط به ضمن تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي.
إن إطلاق لقب «الطائر المصلوب» على الشهيد ينسجم مع حقيقية إن الطائر يرمز للحرية، والشهيد قدم حياته من أجل الحرية لشعبه ووطنه «شهادة الفريد سمعان ص85»، فضلا عن انه هو نفسه كان تحلى بصفات الانسان الحر التي من أبرزها صفة الصدق والامانة ونكران الذات.
ان مفردة الطائر تنسجم أيضا مع النشاط الرياضي الذي يرتفع صاحبه عن صغائر الأمور محلقا مع الكرة العالية المسددة جيدا نحو الهدف محققا تنافسا شريفا وديا مع زملاء اللعبة، ونضيف الى هذا علمنا ان بشارا كان يجيد ألعاب الهواء «شهادة كريم صدام ص77».
من هنا نرى إن قوة ما إذا اقدمت على « صلْب « مثل هذا الطائر الحر حينئذ يتعين ان نتحدث عن حجم البشاعة التي بلغتها تلك الجريمة. وهذا ما حصل يوم تنفيذ حكم الاعدام بحق بشار الطائر وكوكبة من رفاقة المناضلين في 17 و 18 آيار 1978 من قبل نظام الحكم الديكتاتوري الدموي المباد، ما دفع زميله في لعبة كرة القدم الإعلامي فالح حسون الدراجي الى طرح سؤاله المدوي في مقدمته لهذا الكتاب:» لماذا أعدم بشاررشيد؟!» وبعد ان يعبّر الدراجي عن حيرته في التوصل الى جواب شاف عبر سلسلة من الافتراضات مع تقليب الأمر الساخن باستخدام كماشة الجمر، يتوصل الى «الطين الحرّي» حول صفحة من الاسباب فيقول :» .. إن بشار ليس شخصا عاديا، ولا بقالا من بقالي البصرة، وهو ليس لاعب كرة مثل اي لاعب كرة آخر، انما هو نجم رياضي واجتماعي وشبابي ساطع، بل هو قمر عراقي مضيء، فقد كان الرجل لوحده قضية كبيرة ..». اذا كان الرجل قضية كبيرة فإن قتله بتلك الطريقة البشعة هو محاولة لاغتيال القضية التي جسدها الشهيد بشخصه. ولايكف فالح حسون الدراجي عن ايراد سلسلة الأسباب في مقدمته المهمة فيواصل وكأن شيطان الكتابة الوجدانية قد تمكن منه ، يضيف : « واظن ان معتقد بشار رشيد الفكري ، وموقفه السياسي ، كان واحدا من أهم اسباب إعدامه، فبشار كان رجلا تقدميا وطنيا، ذا افكار وتوجهات نظيفة تتقاطع تماما مع وساخة البعث فكرا وسلوكا... ويقينا ان ملايين العراقيين كانوا يعرفون ما يحمله بشار من معتقد فكري وسياسي..» وليسمح لي الصديق العزيز فالح ان اختلف معه حول مفردة «أظن» الواردة في مقدمة هذا الاقتباس، فنحن لانظن ذلك بل «نجزم» بان ما توصل اليه الدراجي هو السبب الوحيد الذي دفع النظام القمعي لاغتياله وليس « واحدا من الأسباب.. «. فالنظام الديكتاتوري لم يقتل جميع الرياضيين بل شجعهم على الانجازات الرياضية ليجيرها لصالح دعايته، لكن اولئك الرياضيين المبدعين وكذا سائر الشعب كانوا رهائن بين اذرع اخطبوط القمع الدموي. كما ان الاجهزة الأمنية ساومت الشهيد بشار حول اعادته الى صفوف المنتخب الوطني شريطة ان يخون شرفه السياسي بالاعتراف بصلته برفيقه المسؤول المناضل كمال شاكر آنذاك، لكنه رفض ذلك بحزم وتلك كانت صخرته التي اوصلها الى القمة.
وضع عبد الرحمن فيلفل كتابه في ثلاثة أقسام، الاول مكون من مجموعة من المقالات القصيره بقلمه حول صفحات منوعة من حياة الشهيد، والثاني اعطي عنوان «شهادات» وضعتها نخبة من زملاء ورفاق الشهيد. سلطت هذه الشهادات اضواء اضافية على ظروف استشهاد بشار بسبب كفاحه السياسي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي وعلى كفاءاته الرياضية واخلاقة العالية التي عرف بها مع تصوير ذكرياتهم الشخصية مع الشهيد. ابرز هذه الشهادات هي تلك التي كتبها الشاعر الفريد سمعان والكاتب والمخرج المسرحي الرائد د . صلاح القصب ولاعبو المنتخب الوطني علي كاظم وكاظم وعل وكاظم خلف وكريم صدام والاعلامي الرياضي لاعب البريد السابق منعم جابر والإعلامي حسين الذكر والكابتن دوكلص عزيز والإعلامي اسماعيل زاير وآخرون. اما الشاعر هيثم محمد رشيد فقد خص ذكرى الشهيد بشار بقصيدة يقول في مقطع منها:
أيه بشار
أيه أيها الصامت المجلجل
لقد توهم شقاوات الزمن الأغبر
إنهم سيتخلصون منك بالموت
وكيف لأمثالهم أن يدركوا
إن لحظة الشهادة
ما هي الا الخطوة الأولى في رحلة الخلود
الأبدي ..؟
في هذا المقطع يحاول الشاعر الربط بين الشهادة في سبيل قضايا الشعب والوطن التي حققها بشار وبين فكرة الخلود، وهي فكرة عريقة في التاريخ العراقي منذ ان تكونت الظروف الأجتماعية الغابرة التي خلقت شخصية كلكامش، فتلك الشخصية التاريخية التي قطعت البراري والبحار وكابدت الاهوال المرعبة من اجل البحث عن سر خلود الانسان، اكتشفت ان العمل الصالح هو ما يحقق خلوده . يعيد الشهيد بشار انتاج شخصية كلكامش في زماننا من خلال موقفه الشجاع من أجل قضية كبرى لصالح الشعب وهي قضية العدالة الاجتماعية . إنها تماثل قضية كلكامش الذي اعتبر العدالة هي القضية التي تستحق ان يعيش ويموت من اجلها الانسان ويكتسب الخلود بسببها.
أما القسم الثالث من الكتاب فقد أعطي عنوان «ذكريات» يتميز بطرافته وجماله لأن فن التصوير هو الذي خلق السرد التسجيلي السائد فيه. وقد أظهر كل من الفنانين المبدعين في هذا الفن حمودي عبد غريب ومقداد حسن قدرات خلاقة في التقاط واختيار اللقطات المؤثرة التي ضمت الشهيد بشار وزملاءه وعائلته في اوقات ومناسبات مختلفة. تضمن هذا العرض جزئين حرص الجزء الاول منها على استعراض الجانب الرياضي في حياة الشهيد عبر صور تذكارية تسجل النشاطات الباهرة له في هذا المجال بينما تكفل الجزء الثاني في تصوير الجانب الاجتماعي والسياسي فضلا عن مظاهر احتفاء قيادة الحزب الشيوعي بذكرى الشهيد احتراما واعتزازا بمواقفه الجريئة في تصديه للمستبدين واعجابا بانجازاته الرياضية ، يظهر فيها سكرتير اللجنة المركزية للحزب حميد مجيد موسى وكمال شاكر سكرتير الحزب الشيوعي الكردستاني ورائد فهمي وجاسم الحلفي عضوا المكتب السياسي وغيرهم معبرين عن اعتزازهم بالشهيد وكافة شهداء الحزب والحركة الوطنية. إنه تسجيل فني باهر يُغني عن الكلمات.
وأخيرا يعتبر هذا الكتاب خطوة حميدة على طريق ملء الفراغ الحاصل في مجال استذكار شهداء الوطن من الرياضيين نتمنى ان يلحقها المبدع عبد الرحمن فيلفل وغيره من ذوي الاختصاص بأعمال اخرى.