ادب وفن

مسؤولية المثقف في المجتمع / سعدون هليل

لا يحتاج الباحث والمثقف المدقق في الواقع الثقافي عناء كبيراً لكي يكتشف عمق الأزمة في المرحلة الراهنة. والسؤال إذن، هل يمكن أن تزدهر الثقافة في ظل الديمقراطية؟ نحن نجد أن أغلب الأعمال الأدبية، والفكرية العظيمة، هي التي كتبت في أحلك عهود الطغيان. فكثيرا ما كان الظلم حافزا في تفجير الطاقات الإبداعية لدى المثقفين ورجال الفكر التنويري.
واليوم لا يمكن السكوت عن التردي الذي يحدث في عالمنا العربي، لا سيما العراق، من انتشار الحركات الأصولية وتوسع ظاهرة العنف الفكري، والايديولوجيات المطلقة. فالجدال الطويل الدائر بين من يعتقد أن الإنسان شرير بطبيعته، كما يزعم الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز، ومن يعتقد أن الإنسان كائن اجتماعي كما يرى الفيلسوف ماركس والفرنسي فولتير، وغيرهم من الفلاسفة التنويريين. وأتصور اننا مقبلون على مستقبل مخيف، وبالتالي يجب ان يقبل المثقفون والمبدعون والمفكرون، على التثقيف التنويري بمبادئ الديمقراطية وبناء المجتمع المدني، من أ?ل تهذيب الفكر الجمعي، والعقلية العامة، ودعوته إلى التنديد بالطائفية المقيتة، والمحاصصة، وظاهرة الإرهاب الدموي الآخذة بالاتساع بشكل غير مسبوق، والتي أصبحت جزءا من الوعي الزائف في بنية المجتمع العربي بعامة، والعراقي بخاصة، أن المجتمع حامل للثقافة، أما الثقافة فهي إحدى وظائف المجتمع. ولا يمكن لضرورة الثقافة أن تكون أساسا لمطابقتها مع المجتمع. كذلك لا يمكن أن يوجد حامل دون عدد من الوظائف. لان الوظيفة الثقافية ليست أكثر من احدى وظائف المجتمع العديدة. أن أول وظيفة للمجتمع وأقدمها هي المحافظة على وجود أفراد هذا المجتمع. لان الثقافة كما يرى ماركس " بأنها الوسيلة في يد الإنسان لكي يتملك العالم، لهذا نحن نناضل من اجل الانسان، لكي نصل الى الحياة المبدعة اللائقة بالانسان. فقد تأخرنا نحن العراقيين كثيرا عن اكتشاف حقيقة هذه العوامل، التي كانت وما زالت قاطرة التاريخ العمياء، لأن هذه القاطرة هوجاء وعارية من اية قيمة أخلاقية وإنسانية. إذا تحدثنا عن الثقافة لن ندخل في متاهات المصطلحات والتعريفات والشروح الكثيرة التي تضج بها أدبياتنا المعاصرة للثقافة، وهذه الثقافة لا تنمو إلا بنمو نقد الواقع الاجتماعي ومن ثم السياسي، وأظن ?ن هذا لا يتم إلا إذا توفر فضاء من الحرية والديمقراطية، ومن هنا يحق لنا التساؤل عن إعاقة الوعي الديمقراطي، والتي تعني إعاقة التنمية وتدمير الوسط الذي يزدهر فيه الإبداع.
إذا تكرست هذه الحالة، اقصد اعاقة الفكر والإبداع، معنى ذلك لا الشاعر ولا الروائي ولا غيرهما من المبدعين يستطيع ان يواصل ابداعه، فالكل سيسقط في العبث والعدمية.
ويعبر فرانس فانون عن مسؤولية المثقف، بهذه الكلمات الرائعة: "ان مسؤولية المثقف ليست مسؤولية عن الثقافة الوطنية، بل مسؤولية كلية شاملة للشعب بأسره، وما الثقافة إلا جانباً من جوانبها. فالكفاح في سبيل الثقافة الوطنية، إنما هو كفاح في سبيل الحرية".
إذن مهمة المثقف الآن استنثائية، ومزدوجة ومحملة بالكثير من المسؤوليات والهموم، وهو ليس مخولا بالتنازل عن حلم الحرية. فنحن نعتقد ان المثقف العراقي شأنه شأن المثقفين في العالم العربي، يحمل مسؤوليات متعددة الجوانب، انها مسؤولية الحياة والمجتمع، لأننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ. وإن أراد المثقف تحمل هذه المسؤولية على عاتقه، عليه ان يبحث عن مثقفين في المجتمع، ويؤمن بوحدة التجديد والاختلاف، ومن ثم ان ازمة المجتمع إنما تكمن في ازمة المثقفين.
نستنتج من ذلك ان الثقافة هي تعبير عن تراكمات تتداخل فيها افعال متنوعة وليس من باب المصادفة ان تلجأ القوى التسلطية القائمة في العالم العربي والعراق بشكل خاص، إلى تعميق ظاهرة ترهيب المبدع، وصولا إلى قتله أو تهجيره أو سجنه، أو إرغامه على السكوت بوسائل الترغيب والترهيب. وقد وصف الكواكبي ظاهرة العنف في كتابه "طبائع الاستبداد" قائلا: "الاستبداد ان كان رجلا وأراد ان يحتسب وينتسب لقال "أنا الشر وابي الظل، وامي الاساءة، وأخي الغد، واختي المسكنة، وعمي الضر، و خالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، ووطني الخراب، وعشيرتي الجهالة".
لذلك أن المثقف هو الشخص الذي يحمل رسالة تهدف إلى خدمة المجتمع، والإنسان. فالثقافة هي الميدان الرئيس لطرح مسألة التغيير في مجتمعنا، وتحقيق نهضة مدنية تحرر العقل من الآراء المطلقة، وبناء المجتمع الديمقراطي المدني، وحفظ هويتنا الوطنية،وترسيخ ثقافة الحوار، ونشير هنا إلى ان المثقفين ينقسمون إلى ثلاثة أقسام في ما يتعلق بموقفهم من السياسة: نقد الحكم، والمشاركة في الحكم، والعزلة في البرج العاجي.
أخيرا، وأنا أرى على جيلنا أن يحسم أمره وأن يضحي كي يرسي تقاليد جديدة تحفظ للمثقف آدميته .
ان الثقافة تبقى خارج نطاق الدولة، وتأتي هنا معادلة الثقافي والسياسي، قد تتداخل هذه المعادلة فيكون الثقافي والسياسي في معسكر واحد، وقد يختلف، ولكن المهم ان الإبداع له اعتبارات وحدود.