ادب وفن

من ذاكرة مدينتي «المجر الكبير»..«عرس بحير» / علي كاظم خليفة العقابي

تعتبر الأمثال الشعبية من أهم أنواع الثقافة الشعبية في المجتمعات, فهي متداولة على لسان البشر في كل وقت وزمن، وكثيرا ما نجدها تتحدث عن عادات وتقاليد، وأحيانا تاريخ شعب معين، وتختلف في مضمونها مع اختلاف مصادرها من حيث اللهجة أو الألفاظ للأمثال الشعبية قيمة أدبية كبيرة، ولقد أدرك العرب الأوائل قيمة هذا الكنز اللغوي البليغ فجمعوها في كتب للأمثال، يذكر منها مجمع الأمثال للميداني، المستقصى في أمثال العرب للزمخشري، جمهرة الأمثال للعسكري، وغيرها من الكتب ضرب المثل من أكثر الأشكال التعبيرية الشعبية انتشارا وشيوعا، ولا تخلو منها أية ثقافة، إذ نجدها تعكس مشاعر الشعوب على اختلاف طبقاتها وانتماءاتها، وتجسد أفكارها وتصوراتها وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها ومعظم مظاهر حياتها، في صورة حية وفي دلالة إنسانية شاملة، فهي بذلك عصارة حكمة الشعوب وذاكرتها. وتتسم الأمثال بسرعة انتشارها وتداولها من جيل إلى جيل، وانتقالها من لغة إلى أخرى عبر الأزمنة والأمكنة، بالإضافة إلى إيجاز نصها وجمال لفظها وكثافة معانيها. وهناك عدة تعارف توضح مصطلح «الأمثال الشعبية» اخترت واحدا منها «انها الجمل القصيرة والعبارات المختصرة التي تشبه القصة القصيرة وتتحدث عن تجربة معينة مر بها أشخاص في زمن معين , يتناولها الناس عندما يعيد الزمن نفسه على شكل مختلف من الناس بينما الوقائع التي قيلت فيها هذه الأمثال نعيشها في اى حقبة من الزمن».
الأمثال الشعبية هي صنيعة الشعوب. ولا تأتي من فراغ أبدا. ومن الأمثال ألشعبية السائدة والمشهور في المجر الكبير هو مثل «عرس بحير» وقد تداولناه منذ بداية الخمسينيات ولا يزال يضرب به لحد الآن, تناقله الصبية والشباب. حيث رددناه نحن جيل الستسنيات وما قبلنا ولا نعرف من بحير؟ وما هو عرسه تلاقفناه من اهلنا وعوائلنا ومحيطنا. ولا نعرف قصته. سوى ان من يتميز بإظهار عرسه واشهاره وإعلانه, للملا بشكل كبير وواضح, مما جعلني ابحث عن القصة الحقيقية له, فعرفت ان «بحير» هو شاب قوي البنية من عائلة فقيرة حالة حال عوائل مدينتي في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينية يتيما وحيدا لامه واسمه «بحير علي ابو لويه الوائلي». كان يسكن ووالدته مع صديق له . حينما كانت الصداقة تعني الأخوة الخالصة مع المرحوم شريجي ضامن الكعبي ووالدته, وكان الجميع يتصور أنهم أولاد عم, حيث لا تعرف ألقاب وعشائر أهل المجر الكبير بل كانوا عائلة واحدة متماسكة يعمهم الخير والصدق والإخلاص والوفاء.
بحير هذا شاب يحمل أخلاق وصفات ابن المدينة يحب الجميع ويحبه أقرانه. نظيف السريرة. وقد يخشاه الآخرون لفرط قوته. وحدثني. احد الرجال بأنه فرق يوما مظاهرة خرجت على احد أقرباءه هو الأستاذ شاطئ وكان معلما وممثلا للحزب الوطني انذلك بسيف لوحدة. خشية منهم أن يأخذوه. او يضربوه. قرر «بحير» ان يتزوج. وهو يعرف صعوبة ما يتطلبه الزواج. ولكنه كان . يتفانى ويعمل ويكدح في شتى المهن من اجل تجهيز عرسه وأمه «ناطف» كانت «جدة المدينة» والجدة هي من امتهنت عمل القابلة المأذونة في وقتنا الحاضر وكانت تسمى جدة أهل المدينة, لأن من أشرفت على ولادته كان يسميها «جدتي» لم تبخل بما ملكت, وادخرت لهذا اليوم ولوحيدها. وبما ان «بحير» وحيدا وليس له أخ. قرر الشباب ان يكونوا جميعا أخوة له. ولأن أمه جدتهم فمنذ ان خطب بحير استمروا بالأفراح والغناء والرقص واستخدام الطبول والدفوف «الزناجير» وبما ان المدينة صغيرة وهادئة يسمع الجميع من أقصى المدينة إلى أقصاها أصوات أفراح عرس بحير الليلية التي طالت لستة أشهر كاملة. فبعد العشاء تقوم من قبل الشباب المحب لبحير, الرجل اليتيم. الطيب وهناك من شيوخ وعجائز المدينة من أكد لي أن عرس بحير استمر حتى بعد الزواج وولادة ولده البكر خزعل. فضرب مثلا شائعا «عرس بحير» ولا يزال تتداوله الألسن في مناسبات الأعراس والأفراح المميزة والتي لها صدى واسع وحضور مميز فلازال الشباب. في مدينتي, حينما ينون الزواج يتوعدوه أصدقاءه بأن يعملوا له عرسا كبيرا كعرس بحير ذائع الصيت, ونظرا لان الحياة بدأت تتشابك وصعبة. وخوفا من تهور الشباب. فعندما يتأخر عرس أحد أقرباهم يصيحون بأعلى الأصوات «عمي كافي قابل هو عرس بحير» رحم الله بحير وأمه وأهل مدينتي جميعا وسيبقى بحير وعرسه علامة فارقة في تاريخ المجر الكبير.