ادب وفن

مراسيم خاصة 4 / مزهر بن مدلول

(عودة الخياط)
على سفح جبلي مشمس في منطقة (لولان)، كنت اقوم بتنظيف سبطانة المدفع استعدادا لمناورة يوم غد، والمناورة هي واحدة من ردود الافعال على خسارتنا في (قنديل) التي ولّدتْ لدينا إحساسا وكأنّ العالم في حالة استنفار أو أنّ ما حصل يشبه اهتزازا في الفضاء! وجعل ادمغتنا تدور في دوامة غامضة، فرحنا نتخذ بعض التدابير لكي نخفف من اثار الصدمة وتداعياتها الحزينة.
لكن الامر المهم في تلك اللحظة من ذلك النهار، انّ شمس الضحى (المشراكَة) كشفت امامي عن مفاتن الحياة وروعتها وقادتني مستسلما الى موسيقى داخلية سرت انغامها في روحي حتى وصلت الى ادق الظلال في الشعور، هذه اللحظة التي لا قيمة زمنية لها، كانت ثمينة، لأنها حملت معها الكثير من مباهج الماضي، ولأنها جاءت في الوقت الذي كاد بريق الذكريات ان ينطفئ وبياضها يوشك على الاختفاء.
قبل تلك اللحظة الخاطفة، كنتُ اشعر بأنّ ذكرياتي كأنها ذكريات شخص آخر وما أنا سوى متلصص!، فبالرغم من انّ رأسي يبدو كمنجم للحكايات، الاّ انّ الزمن تراكم عليها بقسوة وضيق الخناق، وبات من الصعب عليّ استدراجها من بين هذا الضباب الكثيف الذي يحجب الكثير من الصور والملامح ويمنعني من رؤية التفاصيل الضرورية، وطبعا من دون تلك التفاصيل لايمكن لي ان احقق كمالا في اية رواية ، لكنّ عزائي، أنّ بعض فصول ذلك المشوار الطويل بقيت عالقة وتأبى ان تبرح المخيلة قط، ومن تلك القصص التي مازالت تشغل تفكيري، هي قصة خالي (عودة الخياط) الذي كانت كل سنوات عمره عبارة عن عقاب متطاول في الزمان.
لا ادري لماذا وقف امامي الآن بكلّ هيبة جبينه واطمئنان روحه، كان حسن الهندام ورقيق الاحاسيس وقلبه يخفق مثل قلب طفل صغير، ورغم الهموم الكثيرة التي رافقت حياته والواقع الاسود الذي كان يعيشه، الاّ انه كان يلونه بالوردي ولم يفقد يوما قدرته على المزاح والضحك والعرفان بالجميل.
حُرم (عودة الخياط) من زينة الحياة، فلا مال ولا بنين ولا هدوء، كان فقيرا من رأسه حتى اخمص القدمين، ولم يبت درهم واحد في بيته الى صباح اليوم الثاني، جرب اعمالا وحرفا مختلفة في الريف والمدينة، لكنّ حظه العاثر لم يرشده الاّ الى طريق العوز والركض وراء لقمة العيش، ولم يكن ل(عودة) مأوى ثابت، فقد تنقل من كوخ الى كوخ ومن (صريفة) الى اخرى، وجميع الخرائب التي عاش فيها كانت مغمورة بمياه المراحيض والرائحة العطنة، تزوج من ابنة عمه (نشيدة) التي مازالت الى الان على قيد الحياة ولم تنجب له ابنا، فكان شعوره العالي بالحرمان من الابناء سببا وجيها لكي يفتح ذراعيه على وسعهما لاحتضان ابناء اخته، وهكذا عشنا نحن الثلاثة في كنف ذلك الحنان، وتقاسمنا جميعا الفقر والجوع والامراض، وهناك ايضا تعلمنا الاحتجاج على الظلم والبؤس الذي تعيشه الاحياء التي تقع اسفل سلَّم الحياة.
لُقب خالي بالخياط لأنه في المحطة الاخيرة من كفاحه، حيث تركته هناك، كان قد ابتاع آلة خياطة قديمة، وجلس على الرصيف يعرض بضاعته على اولئل القرويين اصحاب الجزمات المطاطية والثياب الخشنة، والذين من العسير ان يخرج من جيوبهم فلس واحد، فكان خالي يكدح ساعات طويلة وبألكاد يحصل على مايسد الرمق من الخبز والشاي.
لا شأن ل(عودة الخياط) بالسياسة، لكنه كان متمردا على طريقته الخاصة، وكانت السيجارة و(استكان) الشاي عنوانا لسخطه وتمرده، اما زوجته، فكانت تخبئ الفأس تحت عباءتها وتسير خلف المظاهرات الطلابية لتحميها من الاشرار كما تقول، اتذكر لسانها السليط وحركة يديها وهي تومئ بهما ذات اليمين وذات الشمال كأنها تلقي خطبة استنكار!، فأخذتني في تلك اللحظة الجبلية قهقهة مجلجلة وحنين جامح الى تلك المعارك العفوية.
بلغتْ فورة الاحاسيس ذروتها، وكنت اعانق الحياة بجوارح متحفزة، حيث الشمس والنسيم والذكريات ملأت قلبي بشحنة قوية من السعادة، لكنّ النصير (الخفر) اعلن عن موعد وجبة الغداء، (الحمص) تلك الوجبة الدهرية التي لا مجال للهروب منها، فطارتْ اللحظة السعيدة، ونزلت من السفح لأعود الى حياتي الجبلية، الحياة التي انقلبت فيها عاداتنا رأسا على عقب، كانت عبارة عن مسلسل من المصائب جاثمة على صدورنا كأطنان من الحجر، حياة ليست فيها وجبة طعام واحدة استطاع عبقها ان يدغدغ انوفنا المحرومة!، كانت وجوهنا شاحبة، وعيوننا غائرة وجافة، والذي ينصت الى مشاعرنا بآذان مرهفة سوف يرى ان الدموع تنهمر من نفق اخر، كنّا مجرد كائنات تقيم على حافة الطبيعة الحيوانية، وكان الجبل يطول ويتمدد كأنه الأبد بعينه!، ومع ذلك فغدا لنا مناورة بالذخيرة الحية!.