ادب وفن

"كوثاريا".. نص لا يقبل الضوضاء / خليل مزهر الغالبي

هذا نص لا يقبل الضوضاء أي لا يمارسها كتابياً ولا يسمح لها بالظهور على سطحه السردي وهو يقلب ذلك الضجيج المنبعث من مكشوف وخوابي المحن التي تعددت وتنوعت بمرورها على جنبات المكون الشعبي العراقي.
ومنه تبقى رواية "كوثاريا" للروائي نعيم آل مسافر- ثيمة نَضَجَتْ مكونها الواقعي لهيئة السرد، وإتقانات ببوابات ومتون نسقية وبما يُعَبرْ عن منطوق شيئياتها مع الحوار بين الكاتب والنص والحوار الأخر بين النص والقارئ، وفق مفهوم نظرية التلقي المنبثقة من التأويل الضمني لمدلولات المرموزات والاشارات ووقائعها وحواريتها الممتدة على طول الجسد الصعب للرواية.
وتعتمد السرديات على الموضوعات المثيرة التي دأب الكاتب على كسر المعني " الأيهام المحكي" بتحقيقه المقبولية لدى المتلقي،ومن خلال أجواء وتقنيات النص الواقعي الملتزم،في تناوب السرد بين الراوي والشخصيات.
ولم يراوغ النص هنا في سرد أحداثه بالمغريات الحكائية البعيدة عن الواقع,بل قام بسرد الوقائع التاريخية وفق تقطيعات وتنقلات ومرورات في قراءة ومراجعة التاريخ،ومن خلال شدة التحولات المنولوجية في السرد الصانعة لدراما الحدث والمحكي عموماً،بعيداً عن روزنامة اليوميات ذات الوقائع المجردة،ومنه أحال النص الى شيء يشبه حصة في التاريخ الممسك بسجل جميع مكونات الرواية في مماثلة راهنية الزمن,ومن تشكيل لأكثر من رابط بين فصول النص,أي مونولوجات لشخوص تتحرك وفقا لصيرورتها الذاتية بعيداً عن تدخل وهيمنة المتكلم الراوي هنا.
ومن الإستقراءات التأملية المتسائلة عن الواقع الأليم، حرصت ذهينة الكاتب على إنضاج ترسيمات فحوى المضمون الفكري لمحكي الرواية ذات السيناريو الذي حرص على تفعيله، ومنه أتقن الكاتب الروائي دقيق مقتنياته وانتقائه وتوزيعه لكل فصول الرواية الاربعة ذات المفاصل المتعددة هي الأخرى، من أحداث ووقائع ومرموزات الشخوص والدلالات المتعلقة الأخرى، وبمحددات الذات الطوباغرافية للزمنكانية التي حددتها الرواية في اشتغالاتها، وبتناسب اللغة الحوارية المنبثقة للمكون اللسناني لملفوظ حوارها المنسجم مع الدلالات الفنية،وبما يوفر قبولية التلقي المنسجم كثيراً مع سردياتها المفصلية، حتى حرص الذهن الروائي للكاتب على تأشير المؤثرات الأكثر وقعاً كعوامل دافعة لولوج المتلقي في محاورة التفصيلات السردية مع إحالات المقاربات المتعلقة معها.
نهج الكاتب "نعيم أل مسافر" في سرد مكونات روايته وبما اسماه السيناريو،الذي اشرنا إليه، وبما ينضج ايصالية الخطاب الأدبي،مثلما يخبر سارد الرواية المتكلم لشخص حمود قائلاً "بمجرد ان رأيت شيئاً من ملامحي أحسست بكاتب السيناريو..." و"تمنيت أن التقي حمود هناك وأخبره أني قد اعدت النظر بإيماني بكاتب السيناريو ومنه راح الكاتب إلى توزيع الرواية الى اربعة فصول وبمسميات دالة لكل فصل "كاتب السيناريو ـ دمى - لقاء مع القدر - الذات المفقودة" وبمفصليات منسجمة مع محور الثيمة، والى توزيع كل فصل بفواصل مسماة وبدالة متممة لثيمة ومضمون الرواية عموماً.
إن توظيف وترميز الكاتب اسم كوثاريا من دلالته التأريخة وسحبه على استقراء حاضر مدينة بغداد، كمركز للإطاحة بالأصنام السياسية، ومن حكاية النبي ابراهيم واطاحته بالأصنام وتضمين السؤال اللماذوي في بقاء الصنم مردوخ وقد علق النبي ابراهيم به الفأس.
ويميل الروائي "نعيم آل مسافر"في شغله هذا على رسم ما يقارن المعادل الموضوعي المؤثر في صنع الواقع التأريخي واحضاره داخل النص، وبما يخلق العلاقة القرائية الأشد ايغالا في تحقيقها لمفهوم نظرية التلقي التي تدور عليها الاشتغالات النصية ذات الاهتمام الكبير بضرورات الابداع الحداثوي المعاصر، والمشابه للظاهراتي المائز في تشييد السرديات ذات الوجهة الجديدة في الأدب النصي الروائي.
ومن بدء الرواية في تساؤلها المحتج ضمنياً والممحور لثيمة الرواية، كما في تساؤلاتها الما بعد مطر السماء وكشفها لحقيقة واسماء الموتى المدفونين جماعيا في مقابر النظام المقبور "هل أغمضت السماء عيونها عما يجري؟....سأخاطبك أنى وجهت وجهي وستسمعني بالتأكيد،إن كنت موجوداً في كل مكان كما يقال..." هذه الأسئلة الوجودية المحتجة كما في مرورها العرضي القول في"إن كنت موجوداً كما يقال "والمقاربة لشكية التساؤل الديكارتي وما بعدها من محاججة بريئة للغيبيات الأُخرى.
لقد نَضّجَ المؤلف -نعيم آل مسافر- مدلولات شخوصة وبوضوح مختصر، فمن عدوانية وقسوة ، سمير - القائد للجمع، والآخر- نبيل- الرديء الأخلاق في لبوسه لهالة طقسه الديني، و-سلام- في نمذجته للظاهرة الانثلوجية لذلك الخادم الفاقد للشخصية في تنفيذه للجرم الموكل له من قائده سمير وكما في تورية تلك المرأة المغلوب على أمرها - فوزية - وتهديدها مع - وزوجها - حمود . المحاصر من الرئيس"سمير"المتشاكل مع القائد الضرورة.
وكانت شخصيات الرواية - عموماً - ذات بناء واقعي مركب، تمتلك مصداقيتها في مشابهتها للبشر الحقيقيين، في أشكالهم وطبائعهم وأقوالهم، وقد أعطت فعلها السردي لدواعي الثيمة، وهي محكيات الألم العراقي من قتل وتغييب وجوع وخوف كما في الوصف..."كانت عيناي معصوبتين ولم يقم اعوان سمير بفتحهما إلا عند المزرعة،فلا اعرف بأي جهة من ضواحي كوثاريا وكما في توصيف شخص سمير بالقائد الضرورة لما له من تعنت وقسوة وحب الذات الفاسدة، ومنه طرحت الرواية خطابها الادبي بتماشيات مع آليات جديدة هيكلت البنية السردية الخاصة بمناخات القتل والخوف، وفق منظومة إشارات اتسمت بالدلالة المعمقة للخطاب، والمشابه لذلك الخيار الفني من خيارات متعددة طرحتها كتابة الرواية الحديثة، التي أشار لها أول مرة في مطلع العالم 1970من قبل الناقد الاميركي "وليام غاس" لغرض عمل الانسجام غير المصدع في التعبير عن الضوضاء الجالبة لتلك الفوضوية العامة التي باتت عليها الحياة المعاصرة ومنها الاحتجاج العالي للأصوات المعذبة والطالبة للخلاص في رواية "كوثاريا".
ومنه اتضح المكون الثيمي الكثير الضوضاء من ازدحام محكي رواية "كوثاريا" من تداعيات وقائع وأحداث القتل والتخويف والمطاردات، وقد استطاع الكاتب"نعيم آل مسافر بسرد الضوضاء المزدحمة في نص "لايعرف الضوضاء"كما في وصفية "رولان بارت" لهذا التكوين من الاعمال الروائية.
واتسمت مناخات الرواية بالعصف النفسي من التعسف المشاع والمجسد لقسوة وألم الحياة التي حرصت الرواية في سردها ،وامتداد نكوصها إلى ما بعد يوم الحدث الكبير، والذي غير الشخوص الحاكمة في البلد ولم يغير السلوك والمجانبات ذات العلاقة للإنسان مع السلطة، ومنه يبقى بطل الرواية وهو في خروجه عن الوطن، بالرجوع والبحث عن الوطن المنتظر وفق أليته الجغرافية ضمن حدود الوطن، وكما جسدها رجوعه وقد هزته تداعيات ما رآه من على شاشة التلفاز من سخرية تواجد المسوخ في قيادة المابعد التغير الكبير.