ادب وفن

عن حالات الخضوع الذاتي والإخضاع الاجتماعي في السرد الروائي / جاسم المطير

الرواية التي قرأتها خلال الأسبوعين الماضيين حملت عنوانا يبدو غريبا للعين منذ أول وهلة. لم أستغرب ذلك. ليس لأن مثل هذا العنوان لا يحمل معنى محدداً، بل لوقوعه ضمن مصادر الإحساس بــ «الواقع» الذي ينظر إليه المسرحي العراقي حازم كمال الدين في أغلب مسرحياته. ربما يمكنني القول أن عناوين جهوده الإبداعية كلها تتميز بخدع فنية، صادقة أو مقصودة، يتجنب فيها أوضاعا عادية لينظم بينه وبين القارئ منازعة كلامية حول معنى العنوان وأغراضه، ثم يحاول أن يوجد مساومة أدبية فنية لنزع الصبغة السياسية عن مسرحيته او روايته. وهو بهذا يلجأ الى نفس اسلوب المفكر السياسي الفرنسي فرنسوا ليني الذي يعني عناية فائقة بالتركيز على «مصطلح معين»، أو على «جملة معينة»، أو على «مفهوم معين»، أو على «عنوان معين». انه باستمرار يحاول استباق الزمن واستباق المستقبل.
هكذا حاول حازم كمال الدين أن يقفز منذ البداية، منذ عنوان الرواية، ليجعل القارئ مواجها سؤالا لا يمكن ان يتحاشاه، وذلك بخروجه عن المألوف بعنوان تكنيكي بعيد عن التداول الثقافي اليومي .. من ثم خروجه على النمط الروائي الكلاسيكي. كاشفاً عن طموحه في بلوغ حالات روائية، متمردة أو سريالية أحياناً، أو ظرفية فوضوية في أحيانٍ أخرى، أو يسارية الاتجاه في أحيانٍ ثالثة. يحاول ان يصنع عالماً روائياً خصوصياً، بالوصف والحوار وبتضاد السياق الروائي. يجعل من نصوصه المسرحية والروائية جزءا من «حرية» يتوق اليها في الكتابة وفي تركيز عدستيّ منظارهِ على مشاهد بعيدة ليقربها. ليقربها بواسطة تركيزه على «لغة» غير معروفة في اللقاءات السياسية أو في المهرجانات الحزبية أو في الاحتفالات الاكاديمية، لكنها معروفة ومتداولة في جغرافيا المناطق والعلاقات المتمردة على سلاسل وقيود الدولة والأخلاق والعادات، حتى لو تكون بعض مفرداتها او كلماتها تحمل ومضات من حرية تعبير لا معقولة. فهو معروف مسرحيا بأنه يتصدى للمسائل الإنسانية بنوع من «غرابة الكلام» و»غرابة الأفعال» لأنه يعرف نفسه الوحيد القادر على حل ألغازها.
رواية «كباريهت» هي أول رواية أقرأها للكاتب المشاكس حازم كمال الدين، المكتوم والطليق، في تعابيره الفصيحة داخل الحيز الاجتماعي العراقي وداخل أشكال التعبير عن واقع هذا الحيز، رغم ان هذه الرواية هي الثالثة في اصداراته. وجدتها مشاركة فعلية في عملية الابداع الروائي الحالية في العراق. حرثَ في هذه الرواية ارضية الواقع العراقي السياسي الراهن ليرقى بالحرث نفسه الى مستوى فحص كل انواع التربة ليعرّف القارئ بواقعية الحياة اليومية، في هذه المرحلة المشتبكة، المعقدة، وبما تفعله الحيوانات الارهابية من قتل واختطاف واشاعة الخوف والبؤس والهزيمة في الشوارع العراقية ومدنها وما تفعله وتؤثر به روح بعض الطقوس الدينية والسياسية والاجتماعية وغيرها مما اخترعته بعض حيوانات السياسة. حازم كمال الدين يريد أن «يقول» للقارئ بصراحة عن كل شيء ليكون مؤثرا عليه.
قدمتْ الرواية أشكالا مبهمة من العلاقات بين ابطالها وشخوصها وأشكالا محتملة ايضا وانواعا مختلفة من المظاهر الجدّية.. كل هذه العلاقات حرّكها بماكنة صناعية معنية بمفردات خصوصية من اجل تحديد خارطة جغرافيا مخاوف الناس من جهة ،ومعنية بخارطة آمالهم من جهة أخرى. بل انه أتقن استخدام الحوار والاوصاف كأنه يريد اقتحام الباستيل الذي يسجن المجتمع العراقي كله، موفراً أمام أعين القراء جوا أسودَ، مشحوناً، متوتراً، استثنائيا.
متعة القارئ عند قراءة الرواية هي ذاتها متعة المؤلف حيث المواجهة المباشرة مع الأحداث إذ تصعب آلية السيطرة على «العواطف» وعلى حالات «الغضب» مما جعله محاولاً استخدام الحوار كأنه مبارزة كلامية تغطي صفحات الرواية. ربما يشعر، هنا أو هناك، أن حركة الرواية متصاعدة باستمرار أو ربما من أجل سلامة التسلسل والسياق الروائيين من خلال تعميم أسلوب من أساليب الحداثة أو ما بعدها كجزء لا يتجزأ من إعلان أقلية التفوق الاجتماعي على الملايين المغلوبة من الناس.
في الرواية نجد المؤلف مشدداً على ثقافة نخبوية «من خلال بطلة الرواية داليا رشدي وزوجها».
يحاول بهذه الثقافة ان يكشف للقراء عن انقسام بغداد إلى "جمهوريات" و"إمارات"و"دوقيات" طائفية متنوعة. كما يحاول أن يقود القراء الى مجتمع المستقبل، مجتمع عام 2030 وغيره، وذلك بواسطة الحفاظ على خطاب علني مباشر، غير مستتر، متبادل، بين الأقوياء والضعفاء، بين الحاكمين والمحكومين، بين القساة والمغلوبين، بين الإرهابيين والمسالمين، وقد انجز حازم كمال الدين كل ذلك ببساطة وبأداء روائي مرتبط ارتباطا عميقا بكثير من المدارس المسرحية، في ظل العديد من الثقوب الاجتماعية، التي خلقتها محددات الأوضاع الناشئة بعد سقوط الدكتاتورية عام 2003.
لقد أدرك عمومية الأوضاع السياسية، ودرامية الاوضاع الاجتماعية، والاخطاء الكثيرة المرتكبة من اجهزة الدولة الرسمية، وصولا الى انتشار عمليات التخويف والسلب والعنف والقتل.
استند حازم كمال الدين في روايته الى عديد من قوانين صياغة حوار المسرح باعتبارها مشابهة لقوانين صياغة حوار الرواية. كما حاول ان يغور في الروابط الاجتماعية والسياسية بين «البيئة» و»الشخصية» اعتماداً على التحاليل الروائية المسرحية.
لم يكن يريد كتابة رواية مثلما كتبت جين اوستن ولا كما حاول شكسبير كتابة مسرحياته، بل انه أراد ، كما يبدو، أن يعبر عن أفكاره الخاصة بمستوى هائل من الحرية. أراد ان يفسر لوحده الأوضاع العامة بطريقته الخاصة ليضع روايته بين ايادي القراء تاركاً لهم فرصة الاحساس بالمشاكل العراقية. بذلك استطاع أن يعبر أيضا عن شعور العراقيين بالقريب والبعيد من المعاناة اليومية القاسية.
كانت تجربته الروائية في كاباريهت شرحاً نموذجياً عن صراع سياسي عنيف كوّن ناراً حامية في مجتمعٍ تراكمتْ فيه آلاف المصائب والمحن خلال 35 عاما مليئة بتجاوزات، صغيرة وكبيرة، على إنسانية الانسان نزلت على ملايين العراقيين كأنما عقوبة متواصفة من جحيم سماواتٍ غاضبة . لكن هذه العقوبة لا تتوقف بعد رحيل صانعها صدام حسين، بل تستمر كما لو كان «العيش مستحيلا بلا عقوبة في العراق»، وقد وصل الخوف الغامض بين الزوج وزوجته ،والأم وابنها، والصديق مع صديقه، كما شاع ارتياب الناس حتى ساعة يمارسون الحب فيها، فأن عالم الكم والرموز المجردة وغير المجردة تتزايد نوعياً مع ممارسة حازم كمال الدين حريته السردية من خلال علاقته وعلاقة ابطاله بالعالم المادي والاجتماعي. إنها علاقة أوجدت عنوان الرواية «كاباريهت» تحت شعار اختطه لنفسه:»أنا حر في الكتابة.. أنا حر في التعبير.. أنا حر في صناعة الحوادث.. أنا حر في تحريك الأشخاص» لتصوير سيطرة نماذج قوة فاشستية جديدة على مجتمعٍ وجد نفسه مهزوزا منذ عام 2003. لم ينجو حازم كمال الدين نفسه من هذا الاهتزاز إذ أغواه قلمه بالخروج مهتزا بعض الشيء في بعض الحوار والسرد، الذي غدا غاية مجردة، بلا إحساس ولا هوية وبلا حوافز.
وجدتُ هذه الرواية مشروعاً فنياً فيه مشاهد مسرحية وسينمائية إلى جانب مشاهد سردية كانت متطابقة مكملة بعضها لبعض أوجدتْ قدرات ، مصغرة ومختصرة، عن دراما كبيرة. هذه ميزة حيوية شديدة الاهمية في النظرية السردية وتطبيقاتها عرضها المؤلف بمشروعه «كاباريهت».
المشروع قام على حركة مجموعة من الأشخاص المثيرين للقلق أو الواقعين تحت ظل القلق بسبب التمركز حول الفكرة الاساسية عن تحرك وتطلعات الهيئة الاجتماعية البغدادية وقد صارت الرواية قادرة على البقاء وعلى الاستمرار في النمو حتى ولو في زمان المستقبل وخيالاته لكن في بيئة متحركة.
موضوع الرواية الاساسي والعام هو تصوير شكل من أشكال احتجاج سياسي عبر حوار متشدد أحيانا، غير منضبط في أحيان أخرى جرى عام 2007 حول اختطاف زوج الكاتبة وهو سائق تاكسي مستخدما بعض رموز التراث في هذا الزواج بتوصيف «علاء الدين» و»السندباد».
هذا الموضوع لم يخلو في الحالين من بعض مشاهد الهرجة المسرحية الناتجة عن معركة البطلة داليا رشدي بالضد من معركة زوجها. الزوجة مثقفة تـُخضع افكارها للفحص الاجتماعي الحر بينما زوجها ترك ثقافته كي يُخضع نفسه وافكاره لمنظومة قتالية قد تصطبغ بالصفة الإرهابية. كلاهما، الزوج والزوجة، يعيشان بمواجهة الحجر الاساس في الرواية، حيث الافكار المذهبية الطائفية، مما يجعل النقاط الثابتة تنثني نحو ضروب من الامراض النفسية ،التي تصيب الزوجة فترغب بمعالجة نفسها ليس بالتطبيب الدوائي ، بل بقناعة الكتابة الابداعية حيث ترى في ذلك شرطا ضروريا لكل مرض انساني اجتماعي بوسيلة المحافظة على «الحرية الداخلية الذاتية» والتعبير عما يعيش في اعماقها بما لا يخلو من التشاؤم الرؤيوي بعد ان فقدت الثقة بالتفاؤل الديمقراطي.
الاتجاه العام في هذه الرواية لا حدود له. لا يتحرر من الالتباس، بل يمكن القول ان الصورة الروائية العامة يمكن تحديدها منطقياً، وأسلوبيا، باعتبارها «رواية تجريبية» تتساءل بنفسها عن معناها ودلالاتها. وقد وجد المؤلف حازم كمال الدين ابداعه في هذه الرواية مجبرا على اللجوء الى محاولة التأمل بالحياة الاجتماعية الداخلية في «زمان» عصفت به الرياح وفي «مكان» أغلقته عناصره المختلفة عن أبواب المكان العالمي الخارجي مما قيد المجتمع كله بمزيد من قيود التخلف التي فصلت بلادنا كلها عن كل ذكاء عالمي، لتحقيق التقدم واللحاق بركب الحضارة المعاصرة.
أوصلتني قراءة الرواية «كاباريهت» إلى حقيقة أن حازم كمال الدين ليس هو رجل تكنيك مسرحي متقدم كما عرفته سابقا، وانما هو رجل تكنيك في الرواية السياسية على جميع المستويات والاختيارات أيضاً، بما يتعلق بالبناء الروائي المتصاعد بروح حوارية اسلوبية فعالة وبتحديد علاقته مع القارئ والقارئة بصيغة مفتوحة أمام حرية التفكير، محركا بقوة، في جميع ثنايا روايته، الفعالية الذهنية والتفكير الحر والقراءة الابداعية ،جاعلا القراء لا يكتفون بمتابعة احداث الرواية فحسب، بل بمتابعة جميع عناصر المتعة في أدمغتهم. لقد جعلهم جميعا ثاقبي النظر، فعالين، وسريعي التفاعل مع أحداث الوطن بالانطلاق من معاناته في الغربة الطويلة عنه.
كان خطاب الرواية ذا محمول سياسي فاجأ القراء بإدانة أوصاف طائفية هيمنت على المجتمع العراقي مستعملاً الرمزية تارة، وبالتورية تارة أخرى. صارت بدائل الرواية تبدو تعميما قد ينجلي في المستقبل بنوع من الحيادية الاجتماعية كما بشــّر بها حازم كمال الدين.