ادب وفن

مروءات الوائلي: صدمة العنوان وضوح المتن / جاسم العايف

عن " لا جدوى من البكاء أبداً"، الكتاب الشعري البكر للشاعر جبّار الوائلي كتب الناقد التشكيلي خالد خضير في كتابه" قيم تشكيلية في الشعر العراقي": "الفعالية الشعرية لدى الوائلي تنشطر في بؤرتين مولدتين تتشكلان ضمن (مجرتين) نصيتين تهيمنان على فاعلية التأويل النصي:مجرة الحكمة ذات البساطة التي تعنى بالانزياح الدلالي، من جانب، ومجرة الشعر التي تعنى بالانزياح اللغوي،من جانب مقابل، والوائلي، في كلتا المجرتين، يحاول أن يقف موقفاً (وسطاً) بشكل لا يطمس فاعلية واحدة من هاتين المجرتين وطغيانها على الأخرى(ص 59 ).
ثم صدر للشاعر كتابه الشعري الثاني "الريح.. وما تشتهي"دار الينابيع - دمشق . وألحقه بكتابه الثالث الصادر، حديثاً، عن اتحاد أدباء وكتاب البصرة وبعنوان" المروءات غادرت محطات بلادي" ونعتقد أن تشخيص الزميل خالد خضير ما يزال ينطبق على كتابي الوائلي الثاني والأخير. أثار عنوان المجموعة الشعرية الأخيرة للوائلي بعض التحفظات الكثيرة في الوسط الثقافي. وإذا ذهبنا إلى الغلاف الذي صممته:" الفنانة أمينة صلاح الدين" نجد عيناً بشرية أنثوية مذهولة، متسعة، حزينة، يطغى عليها لون حزين يحفّ به السواد مع احمرار في بؤرة العين. عين منكسرة مذهولة تبدو كما لو أنها تودّع راحلاً عزيزاً بدمعة تسقط في فراغ موحش في تمثيل مرئي بسيط للقنوط والإحساس بالفقدان الذي يكتمل بمفردة مرئيّة أخرى تعزز الشعور به بمشهد طائر أقرب إلى أن يكون غراباً تسمّر على غصن شجرة احترقت تماماً. الفنانة"صلاح الدين"، كما يبدو، قامت بترجمة العنوان بَصَريّاً وكثفت دلالته بمفردات جاهزة بسيطة، وكانت بمثابة مترجمة للعنوان فقط أقرب منها إلى فنانة خلاقة لها رؤى خاصة،كونها قد قامت بتصميم عدداً كثيراً من أغلفة الكتب، وكان يمكن لها بشيء من الجهد البسيط و الضروري والذي لابد منه، الاطلاع على متن الكتاب كي تتمكن من تصميم غلافه، لا أن تكتفيَ بعنوانه فقط. بعد تلك التحفظات برر الوائلي هذا العنوان، بأنه بمثابة صرخة مريرة، تحمل عمق دلالاتها لكل مفردات حياتنا الراهنة وهو تجسيد للواقع المرير الضاج بتكالب الصراعات على العراقيين. إذن العنوان لدى الوائلي بمثابة (المفتاح) للولوج إلى نصوصه بعيداً عن لغة الرتوش وعبره تنطلق صرخة الألم. عنونة النص ومرموزاته تشكلان منفذاً لقراءته، كما جاء في كتاب "ثريا النص- مدخل لدراسة العنوان القصصي/ وزارة الثقافة والإعلام- بغداد- دار الشؤون الثقافية العامة- الموسوعة الصغيرة- 1995" لأستاذنا "محمود عبد الوهاب" الذي أشار في حواشي كتابه ، بأنه استعار " ثريا النص" عن مقالة للناقد د. حاتم الصكر، والذي بدوره ينسبه إلى" جاك دريدا"، وقد تنبه لمسألة العنوان وأهميته، الشاعر الفرنسي "ملارمه" الذي تطرق إلى" الثريا" الواقعة في سقف النص عند قراءته لقصائد الشاعر "موريس جيلمو". لكن أستاذنا "محمود عبد الوهاب" نقله من حقل الشعر إلى حقلي القصة والرواية. وقد بحث (ياكوبسن) العنوان بصفته مُكَوناً من بنية النص وذكر أن له أكثر من وظيفة بعضها المرجعية المركزة على الموضوع ووظائف أخر منها التحريضية والأيديولوجية وغيرها. تألفت مجموعة الشاعر الوائلي من (28 ) قصيدة و بـ(120) صفحة من القطع المتوسط. ثمة فيها أسئلة متواصلة عن فجائع للمصائر الإنسانية المجهولة والمغيبة، وما يبعثه ذلك من أسى لتحقيق توصيفات لها عبر بؤر تتجسد في شخصيات تقبض عليها الذاكرة لمغالبة الحاضر والتداخل(شعرياً) بين ما هو مجرد وملموس. يفتتح الوائلي مجموعته الشعرية هذه بقصيدة يهديها إلى، المستشار في وزارة الثقافة العراقية المغدور الشهيد: " كامل شياع.. حصراً":
" تكابير..
في صلاة الروح،
تعالت في ضمائرنا.
بكاء الهمس ترانيم يصافحنا،
شهيد في عيون الليل،
مصباح يودعنا "
" فهذي الدنيا عاتية
وصار الموت تسيرا
وصار الشوك في حيتانه غارا!!"
" هضيمات ليالينا،
تستبكي بحد فاقه الحد.
وفي الأعماق تنهد.
عصافير زغيبات بقت تحدو
وحتى الريح بثوب الحزن،
صاغرة..
بدت تشدو!!".
" يمر النعش "مزفوفاً" على الاكتف
حناجرنا..
تشق عتمة الليل به تهتف.
زوابع دق الطبل
في ترحاله أمس.
علا صوت..
رفيق الدرب توسد تربة الرمس".
"الوائلي" يراقب ملامح مدينته وبعض شخصياتها الدالة عليها.. تلك الشخصيات الخارجة من فجائعها لتقترب من حواف الموت أو الغياب، بفعل قوى قاهرة متعددة وبأفعالها الوحشية المتواصلة ، هناك وطن بأسره يترنح أو قد يتصدع ومعه شعبه يُذبح يومياً. لكنه مع عنوان كتابه الصادم هذا، فإنه، في المتن، يفتح فسحة لأملٍ ما:
" فابشري
يا ارض جدي
أنت ثورة في عروقي،
قد تسامت كبرياء فتلاشى..
صوت ذاك البوم،
من قلب المدينة.
واتى الخصب يغني بالمزامير الحنينة".
تنوعت قصائد المجموعة بين شعر التفعيلة الذي اعتمده الوائلي في مجموعتيه السابقتين، بحكم ممارساته السابقة في الكتابة فيه، وبعض قصائد النثر القصيرة التي تنبني على الأسئلة الحارقة والومضة التي تنتهي بها القصائد:
"عزمت..
أن اشطب مرارة
خرائط العمر المداف "
" لملمتني..
باكتظاظ غمامات السراب
وبغرابة سألتني:
إلى أي وطن تنتمي!؟
فخيم صمت الوجوم."
"أي نور قد تدلى
أي غيث يغسل أحزان صمتي"
" لا غرابة..
أن تنهش دمي
أنياب الضواري،
سحر أحلام الحياة."
"نحن أدرى..
عجاجهم تحركه سرابل حمق!
مأمورة..
بظلام وصايا الغرباء!؟"
"كنت بالأمس..
أدندن أنشودة..
تترجم خفايا الجراح.
برفيف أجنحة بيضاء.
فأصطادها القناص،
بحماقة..
ونعتوها بهلوسة الفسوق!!"
"ملتحفاً عباءة النسيان،
و بجفلة ذعر،
احتمي بأحرفي الخرساء"
"تحت خيمة الخوف،
أسدل طاقية الإخفاء
مضاضة..
وأسدل الستار!!"
بدأ " الوائلي" المشاركة في المهرجانات الشعرية والثقافية الجامعية عندما كان طالباً في كلية الآداب/ جامعة البصرة/ أوائل السبعينيات، ثم في كلية التربية/ الدراسات العليا / للحصول على الدبلوم العالي/ قسم اللغة العربية-جامعة بغداد ثم النشر في بعض الصحف ،وانقطع فترة طويلة ، وعاد للنشر بعد سقوط النظام. قصائد الوائلي تتفجر بأحاسيس عفوية وتنطق بأفكارها ضمن مسار وحضور آني وتلقائي وانفعالي، مما ينعكس على لغته الشعرية التي تقدم نفسها ،أحياناً، ضمن صيغ كلاسيكية مع أنه يسعى لاعتماد الحداثة الشعرية ، وبعضها، تفتقد الغنائية والتي لابد منها شعرياً، لكن دون إسراف. فـالشعر لا يصح أن يكون مجرد جهد لغوي ، أو طبقات صورية فوق طبقات فحسب، ما يجعله مجرد تجريد ولعب باللغة وبالكلمات، فلابد من طراوة ، دون ميوعة، تشع في القصيدة والكتابة عموماً ، لتؤثر في المتلقي وتخلق الهوى والافتتان والإدهاش، بين الشاعر أو الكاتب والقارئ على حد قول "روجيه غارودي"، والذي بدوره يعيد هذا الأمر إلى " كارل ماركس". قصائد (جبارالوائلي) في "المروءات غادرت محطات بلادي" بمثابة مواد أولية تنهل من الواقع العراقي المعيش ومصادفاته الغريبة والملتبسة ، و تشكل انعكاساً لجحيم وفجيعة الحياة العراقية القاسية وتسعى لأن تجسد أشكال المعاناة فيها، كما تحاول أن تسجل شهادتها بوضوح عن قحط هذا الزمن بعنفه ومراراته.