ادب وفن

بمنأى عن الحلم رحل والدي خليل شوقي / روناك شوقي

اربعون يوما مرت على غياب ابي ، مستحيل لا استطيع ان اصدق ذلك لأني ما زلت وكذلك اخوتي نتصل بالبيت ونسأل كالعادة عنه وعن صحته ( شلون ماما وبابا شنو اخبارهم ) السؤال المعتاد الذي نستخدمه يوميا والذي يطمئن ارواحنا ، وصوت ابي الرخيم الصافي يصلنا يوميا يطمئننا انه بخير ويطمئن روحه ان اولاده الذين يعيشون المهاجر المختلفة بخير ويومنا مر بسلام ، مازلنا لا نريد تصديق ان الموت هو الحقيقة التي نعيها ونعيش من اجل ان نصل اليها ، الحقيقة التي عذبت جدنا جلجامش بعد ان غيب الموت روح صديقه وخله انكيدو والان تعذبنا نحن اولاد خليل شوقي ، كيف يستطيعون تعميم فكرة التعايش مع الموت كما يحدث الآن في وطني انها كرة تتجاوز اللامعقول في تصديقها ، كيف يغيب الموت انسانا عاش كل هذا الوقت معنا بكل تفاصيل حياتنا اليومية وخاصة العاطفية منها ، فأبي لم يكن الملك لير يجمعنا نحن اولاده يختبر حبنا ليوزع علينا عطاياه واراضيه حسب الحب الذي نحمله له .. وليس هو ماكبث يريد ان يحتكر السلطة ، فهو الذي علمنا اول دروس الحب والعطاء وعلمنا كيف نرى الاخر وننظر اليه بعين كبيرة ونبحث من خلاله ما نفتقده فنسعى في البحث عنه ، علمنا ان جماليات الحياة فيها الشيء المدهش وعلينا ان نعيش هذه الدهشة بكل متعة وان نتوجها في افعالنا اليومية .. علمنا ان بيتنا هو المكان الذي نفرح ونبكي في ظله .. علمنا أن سحر الاشياء يكمن في ماديتها وان السعادة يمكن ان تكون مطلقة اذا عشنا تفاصيلها الصغيرة ، اذكر التقيت اهلي بعد اكثر من عشرين سنه .. حين استقروا في مهجرهم في هولندا كنت و ما زلت ازورهم كل عطلة كل عيد كل فرصة تسنح لي لأعوض حرماني لهم ولوطني ، وطن صغير رحنا نزوره انا واخوتي لنعوض فيه غربتنا عن وطننا الحقيقي بعد كل هذه السنوات ، شقة صغيرة تكفينا حتى بعد ان كبرنا وكبرت معنا احلامنا وعذابتانا ، وعندما نلتقي كلنا اخي واثق واختي وايسر يأتون من السويد ، فارس وعلي ومي ومنى واولادنا والاحفاد احيانا ، كلنا نلتقي في تلك الشقة وكأنها قلب صغير تعج بالذكريات وتغص مرة بدمع واخرى بكركرات الضحك ، وبغداد مدينتنا الحزينة كانت محور حديثينا فأبي يظل يحدثنا عنها وعن تاريخها وناسها الطيبين فهو يحفظها عن ظهر قلب شارع شارع وكيف خططوها لتصبح قبلة العالم بتركيبتها الاجتماعية وطراز معمارها ابي رسم شوارعها وحفظ كل مقاهيها والمحلات وتواريخ افتتاحها ، يحدثنا عن جدتي المكافحة الصبور وعن عمي الذي تأثر به ، كلما كبر ابي عاد الى مدينته بغداد بخياله وفكره وروحه ، يعيش فيها يحدثنا عن جيله كيف عملوا بحماس و بنكران ذات من اجل الوطن كان يغص بالكلام كلما حدثنا عنها وما صارت اليه الأن ، يحدثنا وكانه مازال يعيش تلك الدرابين ببيوتها المتداخلة وما زال يشم رائحة الخشب العتيق ويدخلنا عالمه ونحن نجلس امامه مثل متفرجين في مسرح صغير نسمع حكاية من حكايات الف ليلة وليلة كل زيارة كانت هناك قصة جديدة وشخصية جديدة نتعلق بها اكثر واكثر ، جلساتنا فيها من الحميمية ما لا يصدق احيانا نعيد اللعبة فيكونوا ابي وامي المتفرجون ونحن نعيد ترتيب الذكريات والصور كي تبقى راسخة دون ان تشوهها الاحداث الانية ، نبدأ لعبة التذكر طبعا دائما من بيتنا القديم والمدرسة والجيران والاصدقاء والحب الاول وتداعياته واحلامنا الوردية ، كل لقاء هو ارتجال لعرض مسرحي فيه من الدراما والكوميديا ما يجعل كل ليلة فيها من المتعة ما يفوق الواقع . عرض فيه كثير من فن الفرجة حيث الحكاية المحكية والتجسيد العفوي للأحداث واللعبة ، الموسيقى الغناء النكتة الحسرة الرجفة ، فتختلط دموع الضحك والفرح مع دموع الحزن حيث لحظة الوعي اننا ابتعدنا عن تلك الايام التي نحاول ان نتشبث بها ، وابي يجلس يتأمل حماسنا لهفتنا في استذكار الصور والافعال ويبتسم ابتسامته المليئة بالرضا ، وكلنا نتفق ان لولا هذه اللقاءات لضاعت ذكرياتنا في هوس الاخبار ونوبات الجشع المجنونة والثورات اللامنطقية والتي خلت من مصداقيتها واهدافها ، لقاءتنا هذه تمنح ابي وامي الكثير من الفرح والطمأنينة ، امي التي تظل تكرر كل يوم نفس السؤال ونسمعه مثل نشيج ( ماذا افعل هنا .. ماذا افعل هنا .. ماذا نفعل هنا .. لا جيران ولا لغة ولا احد نعرفه ) تلح بالسؤال ونحاول ان نجيبها والغصة والألم يملأ ن قلوبنا ( هنا الامان هنا السلام هنا .. هنا ..) لأننا نرى كيف تصاغ شيخوختهم في وحشة المهجر ، امي تحدثنا عن طفولتها حيث كبرت ونشأت في عائلة كبيرة ومتمكنة، تصف لنا بيت طفولتها وكأنه من تلك البيوت التي نراها في الافلام القديمة ، امي تحدثنا عن سفرها من البصرة الى بغداد بعد ان تشتت عائلتها لأسباب مختلفة ، وكيف سقطت بحياة صعبة وكأنها تحدثنا عن سندريلا تلك التي غدرها الزمان بعد حياة مترفة الى حياة اكثر واقعية واكثر صعوبة حيث وقفت جنبا الى جنب مع ابي الذي كان يؤسس حياته ، تتحسر على ماضي كان بالنسبة لها عالم سحري كل شيء فيه مرتب جميل احداث متداخلة ، كنا نجلس امامها مندهشين نتابعها بانفعالات طفولية، نعم امي تتحسر وتملأ البيت بسحابة شفافة نرى كيف يتجلى حزنها على ماض مر ولكن مازالت تستنشق رائحته حيث شط العرب وطلع النخيل وحكايا بنات العمة والاصدقاء ورقصات الفالس والتانكو ، ونحن نسمعها مندهشين لذلك العالم المترف الراقي والمتقدم الذي كان يسود وطننا ، وكانا هي وابي يتسابقان في الحديث عن الحياة المدنية الحرة التي كانت تسود في ايام زمان ، التعليم الموضة النظافة ركوب النساء الدرجات الهوائية المبكر حفلات الرقص الغربي وغيرها ، وكيف توقفت عند لحظة الاحتضار والموت البطيء لبلد كان اعجوبة العالم حيث جداريات البطولة والعطاء والبحث عن الخلود وفلسفته واوليات القانون الذي في زماننا حذفت منه كلمتا العدل والحق ، نتحسر في جو هارموني مثل لحن موسيقي حزين ونلوي رقابنا حزنا وخجلا ، امي تنظر الينا متعجبة كيف استطاعت ان تربي سبعة اطفال في ظروف اقتصادية صعبة حيث كان ابي المعيل الوحيد للعائلة وقد تحملت الكثير من احلامه المتغيرة والمختلفة بين الوظيفة ..( الرزق ) وبين مزاجه واحلامه كفنان، كانت تعرف لحظة التجلي عندما كان ابي يدخل البيت وهو محمل بفكرة عمل فتعرف عندها انه يريد ان يكتب ولأن بيتنا كان صغيرا ونحن سبعة وبأعمار متقاربة ، كانت امي تحاول ان تخلق له جوا من الهدوء فكانت تصرخ بنا ( لقد نزل الوحي .. لقد نزل الوحي ) فكنا ندرك ان ابي يريد الكتابة فنذهب الى غرفنا نهمس عسى ان يكون ذاك الوحي ملاك رحمة يقف على اكتاف ابي فيجعل الحروف والكلمات والافكار والوجوه والفعل ورد الفعل تتراقص على الورقة فتوضع في منظومة لتصنع نصا دراميا ناجحا وليفتح امامه ابواب الخيال المطلقة ، كل سفرة الى اهلي ونحن نعيش الدهشة بعد الاخرى نتهامس في ما بيننا كم كبروا وكم كبرت معهم ذكرياتنا ، كل لقاء نرى ابي اكثر تأملا حزنا ، فمنذ ان غادر العراق غادرته البهجة بالحياة واستسلم لصمت عميق وحزن لم اره الا في لوحات الفنانين العظام ، حيث يتجمع الحزن مع التأمل ليصنع ( بورتريت ) لرجل متصالح مع نفسه يعيش العزلة يتحرك بين الماضي والحاضر ، بين السامي والعادي من المشاعر ، تملؤه الكثير من التساؤلات حول عصر تدور فيه الاحداث بشكل بشع ومؤثر فاجعة بعد اخرى ، ابي حقق جزءا احلامه ولم يستطع تحقيق الاخرى بسبب الاخر او السياسة الفردية التي حكمت العراق لفترة وكان واحدا من الذين حوربت مسيرتهم الابداعية بتعمد ( خاصة في السينما ) ولكن لولا كبريائه وقوة شخصيته لضاع في صراع تاريخي يعيد نفسه بطريقة مملة وقاسية صراع الجلاد والضحية وابي رفض ان يكون الضحية ، كان يردد دائما ( ما نزلت راسي لاحد ابدا كي تظلوا مرفوعي الراس ) ابي طواه المهجر ليس جسدا بل روحا ، فقد كان ذاك الرجل الفنان المتجدد الانيق ولحد اخر لحظة من حياته ، الواثق بنفسه وفنه المرح المليء بالحياة والذي اغرمت به الكثير من النساء ، انطوى روحا من كثرة الحزن والتفكير ، فتوقف عن الكتابة ربما لا يريد ان يكون شاهدا على عصر صار القاتل والقتيل ابطاله فاغمض عينيه حتى على ذكرياته الخاصة ، ابي اراه يتحرك ببطء رافضا ان يتقدم خطوة نحو واقع لا يمت اليه بصلة لا لأنه مازال يعيش الماضي ولا يريد ان يغادره الماضي الذي كان يتجلى فيه كل مفاهيم الحياة الكريمة والعطاء من اجل الانسان ومفاهيم الفن المقدس رغم ايمانه الكبير بالتجديد والمستقبل ، لم يتنازل عن مبدأ من المباديء التي وضعها امامه في عمله وحياته العامة كان دائما يكرر علينا ( انا عملت من اجل حياة الناس البسطاء ومشاكلهم لقد كانوا شاغلي الوحيد ) ، كلما زرته اراه يضع وطنه امامه مثل جثة هامدة يبكي عليه بصمت يبكي على كل ما صنعه جيله كيف انهار وتمزق وكيف يكتب التاريخ ويزور وكيف يصاغ الانسان خاوي الفكر والروح ، قبل اكثر من سنتين حاول اخي الصغير علي اخراج ارشيف الوالد من بيتنا في الدوره والذي كان يقلق ابي كثيرا كأنه يريد وللحظة الاخيرة ان ينقذ ما تبقى من ماضيه ، كم هائل من الانتاج الذي يعج بالشخصيات والاحداث والحكم والافكار، اوراق تراكمت وتكسدت على بعضها البعض اصفر لونها تمثل زمنا ذهبيا في الانتاج الابداعي ، يقف ابي امام ارشيفه نتاجه الفني تاريخه وهو يرتجف تواضعا ويكرر علي وعلى اخوتي ( انظروا هذه اعمالي ..شكد اشتغلت هوايه اشتغلت ) يكرر ذلك مرات ومرات وفي صوته طعم المرارة ، وكانه يصرخ بالناس بالعراقيين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والشكر بالعرفان لجيل اعطى وقدم الكثير ، وكانه يصرخ ليقول انا ما زلت موجودا حيا ، لقد امن ابي في عمله على اكتشاف الجديد من الاساليب والارتجال والخروج عن السائد والمألوف وحاول تكسير البنية التقليدية في ادائه للشخصيات والبحث عن فضاءات جديدة في تشخيصها ، الحديث عن ابي ونتاجه الفني يحتاج الى كتاب خاص فهو (زوربا) الذي لا يهدا ويكل ، وعندما فكرنا ببيع بيتنا في بغداد ابي صار يحدث نفسه ويكرر نفس الجملة ( تعبت حتى بنيته .. اربع سنوات وانا ابني هذا البيت الصغير .. وضعت روحي فيه .. انه بيت العمر ) ابي مثل جريح مطعون يدور بالبيت مثل فرس يلفظ انفاسه الاخيرة بعد رحلة شاقة وعيناه مفتوحة على اخر صورة التقطتها عيناه على بيته حياته اصدقاءه ، يهرب من النظر الى عيوننا كي لا نرى حزنه دموعه تسقط على بيت كان حلمه ، او ربما هو العراق الصغير الذي يشبه القلب محروس بأربعة جدران والذي حلم بالعودة اليه في يوم من الايام ، انه قرار معذب كلنا عشناه وترددنا في اتخاذه ، امي التي ظلت تردد (لم نتمتع به لا لم نتمتع بالعيش به ابوكم تعب في بنائه ) وبعد ان بعنا البيت ابي دخل في دوامة حزن لا تصدق نعم هذا البيت الصغير الكبير ذهب مع العواصف التي ضربت وطننا فأخذت معها كل الاحلام والاماني ، في احدى سفراتي الاخيرة خرجنا انا وابي للتمشي سألني الى اين تريدين الذهاب قلت له كما تشاء فانت تعرف المنطقة ، تأنق ابي كعادته وخرجنا مشينا ودون ان يشعر اخذني الى حديقة الحيوانات في المنطقة ، احسست عندها انني في السادسة من عمري وابي يمسك بيدي ولأول مرة في حياتي يأخذني الى عالم الطبيعة الساحر يشرح لي عن المنطقة والحديقة والحيوانات فيصل الي صوته وكأنه يأتي من ذاك الزمن الساحر عندما كنت انظرا ليه ذاك البطل القوي المثالي الحازم العصبي القلق على كل شيء اخذني الى عالم الدهشة وكأني ( اليس في زمن العجائب ) ، ثم ذهبنا الى مشتل المنطقة وبدأ يشرح لي اسرار الطبيعة وكيف اثرت وتأثرت بالتغيرات المناخية فاختلطت الالوان امام عيني ، كل شيء حولي احسسته يسير في حركة بطيئة وكأننا نمشي في حلم ليس له ملامح واضحة فقط احسست بالاسترخاء والطمأنينة ، اخذني الى مكتبة صغيرة خاصة لأهالي المنطقة دخلناها بكل هدوء ، الناس يجلسون يقرؤون وكأنهم في حالة سحر جميلة ، هذه الاجواء مستحيل ان نراها في بلدننا فنحن توقفنا عن القراءة منذ زمن طويل الا النخبة ، ولا نملك هذه الاماكن التي ينفرد فيها الانسان مع المعرفة والعلم حيث تفسير رموز الحياة والتاريخ الذي جعلت مغامرة الانسان ازلية ، جلس ابي في المكتبة وهو ينظر حواليه متحسرا لأنه لم يتعلم اللغة الهولندية ، لمعت عيانا ابي وهو يتحدث عن ما يتمتع به المواطن الهولندي وكأنه يتحسر على وطن حلم ان يملك ابجديات المعرفة والحرية وفضول البحث واستخلاص العبر من التاريخ والانسان وكرر جملته متحسرا ( نحن لم نعرف تاريخنا جيدا ولم ندرسه لذا لم نستطع ان ندافع عنه اما هم عرفوا كيف يدخلون بلداننا لانهم عرفوا تاريخنا جيدا ) ابي تعذبه فكرة ان الانسان وقع في فخ الخوف عندما نسى سعادته وتوقف عن البحث عن الحقيقة كقيمة اساسية في حياته ، مشينا صامتين وكأننا دخلنا تلك الحالة الشعورية عندما يتهيأ الممثل ليصعد خشبة المسرح مسك ابي بيدي وخطونا خطوتنا كانت هناك اختي الكبيرة مي واختي منى واخي واثق واختي ايسر وفارس وعلي وامي تجلس تنتظر في الصف الاول حتى ضربت اضواء المسرح اعيننا وارتفعت اوبرا بوتشيني ، شعرت بنسمة هواء محملة برائحة الراسقي في حديقة بيتنا في بغداد حيث طفولتي واول برد قاسي اعيشه في موسكو واول طلوع صباح في شارع دمشقي ورائحة الياسمين ، وشممت رائحة خشب يحترق من مدخنة جيران بيتي في لندن ، اما ابي فراح في صمت وعينه محدقة في نقطة واحدة حيث كان .. صرخت همسا ( ابي الابداع اكثر سحرا وسرا من الموت .. الابداع اكثر سحرا وسرا من الموت ) لكنه لم يسمعني لان ابي تجاوز الزمان والمكان فضاع كلامي في صدى تلك السنوات.
لندن 15- مايو - 2015