ادب وفن

أدب الحكمة والنصيحة.. كتابة تاريخ / ألفريد سمعان

تناول عبد العزيز لازم في كتابه " أدب الحكمة والنصيحة في العراق القديم - ترجمة الحياة" موضوعة وادي الرافدين والمنجزات التي تحققت والظروف الصعبة التي مرت بها أطياف ذلك المجتمع، وعكستها مرآة الأساطير والملاحم والأمثال والقصص والمقولات وعلاقة ذلك بالوضع الاجتماعي السائد المخدر من سنوات طويلة عامرة بالمفاجآت، حيث انحدرت جموع الحيثيين.
وقابلهم من الشمال الشرقي الكيثيون، إضافة للأمور بين الذين جاءوا قبلهم ولم تتوقف الأقوام الزاحفة من الجزيرة العربية، إضافة للسكان الأصليين من السومريين والاكديين والبابليين والأشوريين واندمجت الأنساب وتداخلت العلاقات بين السكان الأصليين والقادمين من شتى الجهات كل ذلك جرى عبر آلاف من السنين تلاحقت فيها الأجناس واختلطت العادات والتقاليد وتكونت جذور حضارة متداخلة حملت في احشائها الكثير من القيم الجديدة والآثار المغموسة في وديان متنوعة الاجناس والعادات، تركت بصماتها المتحاورة مع بعضها على عتبات الحضارة والدلالات التاريخية المتعانقة مع بعضها بدون أية محاذير حيث لم تبدأ مشاعر الإحساس بالاتجاهات القومية وتركات الملكية فاعلة.. انما كانت منطلقة في فضاءات تتقبل كل الأشكال والرغبات واستقبال المواجع الطبيعية بشجاعة نادرة.وقد حصر المؤلف دراسته حول مقومات ذلك العصر بطابعها الديني والفلسفي والإبداعي في بضع نقاط شملت بالموقف من العمل والفوارق الاجتماعية. ومن ثم الوضع العائلي والزواج.. ومكانة المرأة، إضافة إلى الموقف الثقافي والمعرفي.. إضافة لبعض المحاولات لتطوير الأدوات التي تساعد المواطن على مواصلة الحياة والاتجاه نحو ضفاف الصناعة البدائية.. ومجاراة الحاجة لإنتاج بعض ما يمكن أن يساعد على تطوير الحياة كالبناء وإنتاج أدوات الطبخ والطعام ورسم معالم الأفراح بأشكال مختلفة واعتماد الألوان والتشكيلات ضمن الممكن.. وبما تمتلكه تلك المجتمعات من خبرات لتطوير أدوات الإنتاج وبالتالي انعكاس ذلك على متطلبات الحياة من سكن وألبسة وابتكارات تتناسب مع المناسبات الدينية والرغبات الجامحة للمترفين وسادة المجتمع.في الفصل المتعلق بالعمل والفوارق الاجتماعية يشير إلى التطورات التي استلزمت صناعة بعض الأدوات الضرورية البسيطة للتعامل مع الحروف للتعبير عن الأفكار والحاجيات وبالتالي صنع ألواح الطين التي ضمت الكتابة المسمارية وظهرت بوادر مجتمع طبقي نتيجة التقسيم الاجتماعي وتملك أدوات الإنتاج والهيمنة على القطاعات الزراعية بل بعض الأفراد المتسلطين الموهوبين وظهرت طبقة نبلاء، ثم طبقة الإداريين، ثم الكهنة فالتجار، وبالتالي ارتفاع الإمكانيات المادية لدى البعض فأصبحوا أثرياء يقابلهم قطاع كبير الفقراء.. وكان لكل فئة لغتها وتطلعاتها ومحاولاتها في الاحتفاظ بحقوقها والحصول على مكاسب من قبل الفقراء وبلغت اللغة المعبرة عن هذه التطلعات تأخذ مكانها (عندما تعمل يكون إلهك معك وعندما لا تعمل لا يكون الله معك)، انه اعتزاز بالعمل وكسب الرزق لقاء جهد محسوب (جهز نفسك والله سيساعدك) واخذ العمل يستقطب الأفكار ويؤكد على كرامة الإنسان (تتجه عينا الفقير إلى حيث يأتي خبزه) وتؤكد كافة الأقوال على بدء الصراع الطبقي الذي اتسعت آفاقه واخذ أشكالا مختلفة في النضال والاحتجاج على الواقع المتردي الذي تعيشه الطبقات الكادحة وتشبث الأثرياء بمواقعهم وتعزيز سطوتهم بشتى الأشكال. وانعكست هذه الصورة في مواقع وبلدان عديدة منها ما جاء على لسان الصحابي الجليل (ابو ذر الغفاري) الذي أعلن (عجبت لامرئ لا يجد قوتا لبيته ولم يخرج إلى الناس شاهرا سيفه) انه إقرار بوقوع الحدث الفاجع.. وتعرض الفقراء للجوع والعدم.. وهو في نفس الوقت دعوة إنسانية وثورية تبيح للفقراء ان يطالبوا بحقوقهم وان يناضلوا ببسالة من اجل نوال مطالبهم العادلة.هي وقفة شجاعة وكلمات تؤكد بان الله والدين مع الحق مع العدالة مع المساواة وليس مع الظلم والاستغلال والاضطهاد مهما كانت التبريرات، ويأتي الفصل بشواهد أخرى على الجوع والفاقة التي تؤدي إلى المذلة والانطواء حيث لا يجدون مأوى ولا عملاً ولا لقمة تسد جوع بطونهم وتحميهم من الموت والمرض وشتى الأوجاع والآلام.وفي مجال العلاقات العائلية تكمن الدعوة إلى الترابط العائلي وتكوين الأسرة ومسؤولية الرجل في القيام بواجباته وتوفير الطعام والكساء والسكن المناسب (ان الشخص الذي لا يعول زوجته لا يعول ابنا انه شخص لا يؤتمن ذلك الذي لا يعول نفسه)، ويشير ان أهمية المرأة حيث تقوم بواجبات الأسرة (المنزل بدون صاحب كالمرأة من غير زوج) انه هنا يضرب عصفورين بحجر حيث يؤكد على مستوى العائلة والى أهمية أن تتزوج المرأة وحاجتها الى الرجل لبناء الأسرة وما يترتب على ذلك من التزامات اضافة الى منح الرجل حرية الاختيار.. (تزوج امرأة طبقا لاختيارك) وتقول الأم لابنها (ابحث لنفسك عن زوجة طبقا لرغبتك) وهذا خلاف ما يجري لحد اليوم في بعض الأنحاء من العالم والعراق بالذات حيث يسمح الشاب لامه أن تختار له زوجة.. كما يسمح الوسط الاجتماعي للمرأة ان تتباهى بزوجها وفق ما تريد وعلى رأس ذلك مخولة الرجل حيث تقول (عيناي عينا اسد وجسمي جسم الملاك الحارس وشفتاي تنطقان بالسحر والفتنة فمن سيكون زوجي شديد الفحولة)، وهنا تبرز ايضا العفة حيث لا تحظى العاهرة بالاحترام، كما يجري في بعض الأوساط من عالمنا الحالي (لا تتزوج من العاهرة التي يقدر أزواجها بالآلاف) وكذلك القول (ان البيت الذي تحكمه خادمة سيؤدي الى تمزيقه).وينتقل الكاتب في أجواء الوقائع الزوجية وما يدور فيها بدءا بالزواج وما يتبع ذلك من التزامات أخلاقية واجتماعية وحرص على كرامة العائلة ومستقبل أولادها وبناتها وأكثر من ذلك فان التقاليد السائدة لا تحبذ تعدد الزوجات وهو ما يؤكد احترام مشاعر المرأة والاعتزاز بمكانتها وأفضالها على البيت الذي تسكنه وترعى من فيه من أولاد وزوج ما يترتب على ذلك من التزامات ومسؤوليات يتحمل الجميع أعباء متفاوتة في الأهمية باستثناء المرأة التي تعتبر القائد الفذ في مسيرة المحبة والتكامل والأصالة.إن تفرغ المرأة العاملة وممارسة النشاط الإنتاجي منحها منزلة خاصة ورتب عليها أعباء كثيرة. وما زال ذلك التقليد قائما حتى يومنا هذا حيث تقوم الزوجة بمساعدة زوجها في عملية الإنتاج حرصا منها على كيان وصحة الزوج إضافة إلى توفير دخل وإيراد أفضل وكذلك تفعل الفتاة في الريف.. ولعل ابرز ظاهرة هي قيامها بحمل المياه بأوعية مختلفة من مسافات بعيدة إلى دار الأهل ونادرا ما نجد الرجل يقوم بهذه المهمة.واعتقد انه إضافة للمشاركة في تعزيز كيان الأسرة الاقتصادي وتوفير إيراد استثنائي فهو يشمل الإفادة من اللقاء مع الأجواء الأسرية الاجتماعية. وقتل الأوقات في مجال مفيد ونشاط يعود بالخير على الأسرة والتناغم مع تقلبات الطبيعة أيضا. يضاف إلى كل ما أوردناه قيام المرأة بتعزيز موقعها في الاسرة وإشعار الوالدين بأهمية ما يقمن به من نشاطات ولم يخيب المجتمع آمال المرأة.. وجاء الجواب (ان من أحب امرأة في الألم والتعب) وهذا لا يعني حصول العديد من المشاكل للمرأة.. عبر السطوة التي تفرضها إرادة الرجل باعتباره الصوت الذي يحكم واليد التي تنفق وتبذل اقصى الجهود لتوفير حياة مناسبة للاسرة.ويمضي عبد العزيز في مشواره ليحدثنا عن الثقافة والمعرفة ويلملم الادلة التي تؤكد سعي الإنسان للتعلم من خلال متطلبات اجتماعية وإنسانية ضرورية، حيث فرض تنوع وتطور الهاجس الاقتصادي الى اكتشاف بعض الوسائل الضرورية.. منها لمجابهة عدوان الحيوانات الشرسة المنتشرة في الأجواء المفتوحة والغابات الطبيعية.. وصنع بعض الأدوات التي تحمي الإنسان من عدوانها ومن ثم الاستفادة من لحومها وجلودها لمجابهة الأجواء المتقلبة وعدم توفر الغذاء في بعض الأحيان إضافة إلى تعدد الأقوام وانتماءاتهم وأساليب تعبيرهم مما استدعى إيجاد صيغة (كلامية) مناسبة تؤمن التفاهم بين مختلف العناصر إضافة إلى تسمية أدوات الإنتاج المكتشفة او المصنوعة وكذلك التعبير عن الكشوفات الجديدة في العوالم المفتوحة.ان لغة الشفاه تطلبت ايجاد صيغ تحافظ على معناها وكذلك نقلها من فم الى فم ولا شك ان البدايات كانت اعتباطية غير مدروسة ثم استدعت وجود حروف وكلمات تشكل جملا وتؤدي معاني ذات دلالات.واجتذاب الآلاف من السكان. كما يجري في عالمنا اليوم حيث يحاول سكان الدول المتخلفة متابعة وتقليد الشعوب التي سبقتها في ميادين الحضارة.. في تلقي العلوم ونشرها وتطويرها وتبديل صورة المجتمع الى مرافئ الحضارة.. حتى لو جرى ذلك بخطوات هادئة بسيطة (اذهب الى المدرسة انها مفيدة لك) ورغم بعض الانتكاسات والاعتراضات التي تقدم بها مجاميع من غير الراغبين في التطور والانتقال نحو الأفضل وآخر ما يتطرق إليه الكتاب هو الوضع الأخلاقي الذي أعطى قيما ومفاهيم ذات دلالات ومعان بعد صراع طويل بين الطبقات الاجتماعية والأوضاع السائدة عبر عدة مؤشرات على رأسها التطور الاقتصادي الذي يفرض قيما ويصنع تقاليد ويقدم توصيات ويؤمن قواعد قانونية كما جرى في شريعة حمو رابي التي درستها العقول النيرة بإعجاب وأشادت بمعطياتها وكان لها أثارها على الوضع القانوني على المستوى العالمي.
ان ما قدمه عبد العزيز لازم في كتابه أدب الحكمة والنصيحة يشكل فاتحة جيدة لأبحاث متواصلة تتطلع لعرض تاريخنا بشكل هادئ ومتوازن بعيدا عن التبجحات وإعلاء شأن لا مكان له.. في مواجهة مفاهيم عريقة ما زالت تجد صداها في عوالمنا.. ولعل أهم ما جاء في هذا الكتاب هو الأسلوب السلس البعيد عن الضجيج التاريخي الغامض المعقد وعن التلويح بأكثر مما أثرت فيه الحضارة القديمة على العوالم الجديدة.