ادب وفن

اللغة القديمة تعني إذلال النص وتحطيم قدراته الطليقة / قيس مجيد المولى

قهرت الحداثة الشعرية ما كان مكتنزنا في النسيج الشعري القديم، بالمقابل فقد اكتشفت حدود الفهم والمقبولية في اللغة إن بقيت على حالها قديما، أو ما أُجريَّ عليها من بعض التعديلات السطحية، كنتيجة للشعور بالتغير المادي لتوافق تلك الحساسية الجديدة التي بدأت تفعل فعلها في البعض من المجتمعات، ولكن الشعر بشكل عام وبشكله ومضمونه آنذاك بقي خارج بدايات تلك التطورات إذ لم يسبق تلك التطورات ولم يتهيأ للمغايرة وقبول غير المتوقع، إذ أن خصائصه حافظت على نفسها وصلتها بالموروث واستخدامها للوصفي المديحي والوصفي الرثائي كما هو الحال في أبواب الشعر الجاهلي القديم، وكانت إن سيطرت على الفترة الحرجة التي سبقت ولادة الحداثة الشعرية شتى المتناقضات التي تمثل محاور عديدة للنزعات الاجتماعية والدينية والسياسية لتشكل على نحو ماتريد أشكالا من العلاقات مابين الدين والآخر، والآخر والمفهوم ،والآخر وقضاياه الدنيوية، وتلك كلها لم تكن إلا نتائج فرعية لعمق الإشكالية الإنسانية التي توجت كرد فعل لتوجهات الحربين الكونيتين وما بشرت به لوائح حقوق الإنسان في أن يجد المرء حريته، وأن يصونها وأن يفجر حاجاته المتراكمة من خلالها وإليها كي يجد شخصيته الإنسانية، ويكون قادرا على فعل شيء ما ضمن المجتمع الإنساني السليم، وقد أحدثت هذه المفاهيم الأولية توازنا ما بين العالم الخارجي وعالم الأنا الباطني بعد أن غيِّبَت تلك الأنا قرونا عديدة وكانت تعاني من فقرها كونها تمثل عالة على وجودها، ولم يكن هذا الإدراك إلا البدايات الأولى لوضع الأسس الشعرية للحداثة الجديدة فقد تعزز مقدار الوهم تجاه العالم وتعزز الإشتغال على إثراء التنوع والتوجه نحو الأشياء الخفية، إذ أصبح ما من شيء لا يمكن إختراقه فأستوعبَت الأسطورة والرمز بشكل جديد، وتغطى الشعر بتلك الضبابية الساحرة التي ذهبت بالمتلقي إلى مايريد من تأويل وإلى ما سعت روحه وبأي إتجاه للمكوث في روح النص.
لقد خرج النص عن ما تبقى من الذهنية المنطقية، وتم انتهاك ما تبقى من النظام القديم وطرق الحدث من أبوابه الجميلة بعد أن اضطربت المرئيات وتحلل الواقع وتخلص الشعر الجديد من كلية الأدوات القديمة، أي أن الحداثة الشعرية فتحت أبواب التعتيم لكشف ذلك المحتوى من الغموض، وبالتالي فالفرصة قائمة على جعل المتلقي أن يقف أمام امكانياته في التعرف على محتوياته الإنسانية ذات البعد الكوني والتي لم تكن فعالة في الماضي.
إنتظم كل شيء ونظر بدءا للغة بأنها ليست إصطناعات من الترابط والزخرفة، وللعاطفة المباشرة بأنها أذلال للنص وتحجيم لقدراته الطليقة الأخرى وليس هناك من شيء مقدس خارج نطاق الذات وأن الأثر الذي تتركه الدهشة هو أثر لذيذ ولا حياة مع العلاقات المتكررة، ولذلك فأن الشعر قد أنتقل من الشكل إلى الرؤية ومن المحاكاة إلى التغيير ولا سبيل لذلك إلا بتفجير الوعي بخلخلته التي تتم بواسطة اللغة أو بمعطياتها الفنية وهذا جانب من الإشكالية التي ظل يقوم عليها الشعر القديم أمام ذلك كان يرى الحداثيون ضرورة نقل الإنسان إلى مناطق رؤيوية جديدة ليستطع أن يرى أشياء ما كان يراها سابقا وأن ينتج طرق تفكير ما كان يفكر بانتاجها وهذا الاستدلال نحو الأشياء يعني في مجاله الآخر اكتشافا للعالم غير المنظور والاستمتاع بعملية الكشف تلك والتحول عبر نتائجها لنتائج أخرى.
لاشك أن هذا التحول سيصطدم والمتلقي أول وهلة ويؤشر صعوبة في تقبله ومعيار الوصول إليه والقبول به أمام معيارية جمالية جديدة لابد من بذل جهد ما لأدراك سريتها، وتلك أحد عناصر البنية الحداثوية والتي يستكمل الشعر بها مفاهيمه ووظائفه.