ادب وفن

معول الحداثة الشعرية أمام التقليدية التاريخية؟ / قيس مجيد المولى

بعد أن قفزت بالاتجاه المعاكس تشكلت الحداثة الشعرية، كان هذا التشكل نظاما خاصا عاش تمرده وقدم دليله القاطع من واقع عميق ورؤيا جديدة تريد نسف التقاليد الشعرية القديمة والمضامين التي تحمل انهيارها.
إن الشاغل الذي كان يجول في عقول المحدثين هو كيفية تقليص المسافة ما بين حداثة الغرب والحداثة العربية الجديدة وتفكيك ظاهرة الازدواج والظلامية، كل ذلك تطلب الإحساس بذلك التناقض والسَّلب الإنساني لحريةٍ ما كانت غير رغبات مؤجلة ضمن الأنا التي تبحث عن سطوحها دون البحث عنها في الأعماق السحيقة، فلابد أن يتصدر ذلك الهم نداء ما للولوج إلى العبث ولتجاوز الواقع المألوف والانشغال بأزمنة خاصة وتحرير المكان من وظائفه المشروعة انطلاقا من خلق منفى ما لإشغال عاطفة مشبعة بروح الفنتازيا ،لقد رأى أدونيس أن الشعر القديم كان يدير مهمة تزيّنية، أي أنهُ يضيف موجودا لموجود أخر محافظا على نسقه التشكيلي ومعانيه السائدة، وأن بناءه استمر على حاجته للتكرار لإعطاء وهج ما لتيسير قبوله ضمن الظواهر والحقائق وأن أفلحت هنا أو هناك في التجاوز فأنه تجاوز محدود لا يضمن إطلالة إبداعية.
لقد مهدت الحداثة الجديدة إلى مساعدة الإنسان على الانتقال من الخضوع والسلبية إلى الاستعداد للتفرس في الكون، ومواجهته من خلال الثقة بالنفس والإيمان بقوى الإنسان وقدراته، وأن كل ما يعتريه سلبا وإيجابا من القضايا الكبرى لابد للشعراء من الالتفات إليه واستخلاص ما يروه مناسبا لتجربة إنسانية صادقة وعداها فلن يكون كل ما يكتب ضمن المسار التاريخي العظيم.
لقد دعا أدونيس ضمن مقالة له في مجلة شعر ومستخدما عبارات رينيه شار الشهيرة عن الشعر "إنه البحث عن عالم يظل بحاجة الى بحث"، وهو السِّفر الدائم الى ميتافيزياء الكيان الإنساني ويعني مغادرة الصلة الشكلية الى المغامرة الإنسانية التي تُمارس ضمن قوانين الحرية والابتكار لطرق أبواب العالم من أجل التحرر والخلاص.
لقد أطيح بالصيغ التعبيرية الموروثة وخصائص الشعر القديم وتم الانتباه إلى التواصل الشعبي في التراث وتجريده من محتوياته الخانقة ليتلاءم تفجير التجربة الروحية مع حاضرها وماضيها عبر قلق الإنسان الأبدي وتقلب نزاعه مع الحياة منذ ولادته ليوم رحيله، وقد مهد ذلك إلى وعي المشاكل الشمولية والتجرد من المشاكل الخاصة الضيقة، لتترك هذه النقلة خاصية مهمة في فهم الاغتراب ووعيه لفهم الاتجاه الغربي الحديث في الشعر دون المساس بخصوصية الإبداع في الحداثة العربية الجديدة رغم مشكلاته التي تكمن في مستويات اللغة والانتماء الثقافي والعوامل النفسية والفنية، وما أقامته التقليدية التاريخية من جدارها العازل بين متطلبات التجديد والرغبة في المحافظة على التقاليد الشعرية القديمة، ولقد رأى أدونيس ما ينطبق على رؤية ريفردي "أن الشعر قائم فيما لا يكون أي فيما يظل ينقصنا دائما"، وبذلك وبما أن الإنسان يشعر بضياعه المتواصل فهو بحاجة دائمة لاستكمال نقصه بتجديد فهمه للعالم واختراق التراث والانفتاح من خلاله على عالم أوسع وطرق أبواب لغة جديدة بديل اللغة التي استنزفت وجودها بمفردات من صميم التجربة الإنسانية التي تهيىء المناخ للقصيدة للتسامي في وحدة التجربة وفي الجو العاطفي الذي لا يتفق مع التتابع العقلي والتسلسل العاطفي الذي بقي في شكليته البدائية والانطوائية والباطنية، لقد كشفت الحداثة الجديدة عن موقف فلسفي وميتافيزيقي إزاء تحرير الإنسان مما يهدده، وأن يأخذ هذا التحرر شكلا متوازنا مابين حاجاته المادية والروحية، وبذلك وضع للإنسان دوره في الرقي ضمن خصوصيته الفكرية والفنية ليصل الإنسان إلى الكمال في اختيار حريته والى الكمال في تصور عالمه النقدي الذي يعترف له بوجوده ويفسح له مكانا رحبا للخلق والإبداع ولاشك فقد مَثَلّت هذه الإنتقالة الشعرية ارتباطا عميقا في مجمل التحولات الروحية ضمن إنعطافاتها في اللحظات التاريخية المهمة.
فقد قام معول الحداثة المقدس بهدم البناء اللغوي للغة الشعرية في القصيدة القديمة، وهو عمل جدي وجاد للإنقطاع عن القوانين وقواعد اللغة التقليدية والتحرر من الإسلوب البدائي عند التعامل مع التراث بل أن هذا الهدم أخذ بنظر الإعتبار تفكيك المفردة القديمة بكيانها المعهود وكانت الإرادة واضحة لدى المحدثين في إعادة البناء على أرضية جديدة مستندين في هذا الى وسيطهم الجديد مع المجتمع بدءاً بالصفاء الشعري ووصولا إلى السمو للوصول لكونيتهم الخالية من الخلط والإعادة ضمن مشكلات لا حصر لها إزاء بدايات أولية لليقظة العربية وشيوع الأيدولوجيات وتقلص المسافات ما بين النظريات الأدبية وتأثير مخلفات الحرب العالمية الثانية على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي وكذلك مفهوم الحريات وحقوق الإنسان، لقد هيأ كل ذلك للمحدثين الجدد مواجهة هذا الخليط من الإشكالات بمفاهيم نظرية ولابد فيما بعد من الانتقال ومن هذه المفاهيم إلى تبني النظريات المناسبة ضمن ما أفرزته تلك المشكلات ، وكذلك التطورات التي يشهدها العالم على كافة الأصعدة وبالأخص منها التحول الذي طرأ على كيان المجتمعات التي بدأت في التحاور الذاتي عن متطلبات حاجاتها الأساسية وفي مقدمتها مسألة الحريات التي دخلت ضمن أزمة الثقافة العربية مقابل الحاجة الروحية للانفتاح الإنساني والإفادة من المشتركات بدلا من التطلع من خلال المناطق الضيقة إلى محدودية الإبداع في الثقافة العربية والخضوع لمسمى "قداسة" المشروع التراثي والذي أستغل من قبل رواد القصيدة الكلاسيكية ضمن المفاهيم العامة والجاهزة نحو فهم التراث العربي وكيفية الإفادة منه.
ان تأسيس حركة الحداثة وتحديدا جماعة "مجلة شعر" تم على أساس تلك المشكلات التي ذكرناها وبالتالي فأن هذه المواجهة الشمولية تعني في جانبها الأساس أن همها كان إبداعيا ضمن مفهوم الوصول للجمالية وتحرير الذات.
لاشك أن هذه الدعوة قد أتت بالحاجة التي يشعر بها الكثير من الشعراء العرب ولاشك في ما لاقت من قبول واستحسان وانتماء من الشعراء حين سارعت أقلامهم الى الكتابة في المجلة وحضور القسم منهم أسبوعية يوم الخميس، أسماء كثيرة من العراق رفدت المجلة بقصائد ومقالات ومن الأردن وسوريا ولبنان وجلهم كانوا يمثلون الواجهة الإبداعية بين أبناء جيلهم كشعراء أو كنقاد مثل بدر ، نازك ، سعدي، بلند، سامي مهدي، موسى النقدي، سلمى الجيوسي، خالدة سعيد، رنيه حبشي، شوقي أبو شقرأ.
إن مؤسسي الحركة والمساندين لها قدموا تصورات جديدة عندما عرضوا تحليل القصيدة القديمة وتحليل الأثر الذي تركته في عقلية المتلقي وانعكاس ذلك على إستجابته النفسية والعاطفية وبالتالي كانت المهمة شيئا من العسرة في تطويع الأذن القديمة وتعديل ألسنة النطق وجعل الأحاسيس برمتها تشترك في ذلك الأداء أمام لغة وبمرور الزمن قد إكتسبت حصانة دينية وبيئة كبيرة حاضنة بل رضىً إلاهي كونها لغة القرآن المحفوظة صحائفه في السماء، فالسطو عليها أو محاولة العبث بها يرقى إلى منزلة الخروج على الأعراف الدينية والأخلاق العربية وبالتالي فعده البعض بمصاف التنكيل بالحضارة العربية وما أتت به من متغيرات في صالح العقلية العربية كمنهج وسلوك.
لقد كانت الحساسية تجاه "اللغة" تلك هي واحدة من المعضلات على أشدها لسبب سابق ذكرناه والسبب الآخر هو بطء التطور أو بالأحرى الشللية التي أصابت الفكر العربي في توجهاته الخاصة لاختيار لحظته المناسبة لاستيعاب النتائج المترتبة ما وراء الحربين العالميتين بعد أن قُسِمَ الوطن العربي ونمت الإقطاعية وتغلغل الاستعمار في مفاصل متعددة من أجزاء الجسد العربي ورغم ذلك فلم يحفل القاموس العربي بشيء جديد بإضافة نوعية رغم أن اللغة تتطور تطورا طبيعيا ضمن سياقاتها بسبب رسوخ الماضي التقليدي في العقل وفي المخيلة.
إن النقد والرفض وإعادة الخلق من الصفات التي لازمت سعي المحدثين للوصول إلى السرية الساحرة وموازنة الحفاظ على ما في اللغة من عذوبة من جهة وانتهاكها من جهة أخرى ،والعذوبة هنا تكمن في تحسس أعماق المجتمع وليس الاقتراب من مناطق متحسساتها، والانتهاك يعني عند المحدثين امتلاك إرادة التغيير من خلال الإحساس بوعي المعاناة من أن يكون الصوت والكلمة بمستوى الإحساس بالغد وليس التعبير عن الواقع المقيت حسب ،هذا التصور الذي ذكرناه عن اللغة جعل العديد من شعراء الحداثة يقفون بالضد نحو قواعد النحو ونحو فقه اللغة ودعوا لتصور جديد أو بالأحرى لاستعمال جديد للنظام الذي ارتكزت عليه قواعد اللغة العربية .
إن الانتقالية الكبيرة التي أحدثها المجددون في الشعر من مرحلة انحطاط مضمونة إلى انتقالة لروح العصر واشباعه بمتحولات ذلك العصر يعني أن ذلك التغيير ليس تغييرا في كيان الشعر فحسب بل ومثلما دعا إليه يوسف الخال في بيانه تغييرا في النظام المغلق والتجربة والحياة والعقل.