ادب وفن

محمود البريكان والدافع البديل لتهيئة الضرورات / قيس مجيد المولى

لا نعتقد أن البريكان حينَ كان يكتب كان مهتما بإيجاد صلة اتصال تلقائية ومباشرة ما بينه وبين المتلقي، كون سعيه لا يكون أساساً للتفكير في سرعة استرضاء الطرف الآخر، بالقدر الذي كان ينشد التغيير وعدم تكريس الواقع القائم، فالشاعر البريكان لا يفكر ضمن هذا المنحى في فترة زمنية ما، أو يفكر في حيز محدود بعينه أو ضمن مكان معلوم،
وبالرغم من توارد بعض الدالات في القليل من نصوصه التي تشير لذلك لكنه كان يبحث عن الدافع البديل الذي يهيئ له الضرورات التي تفتح له أبواب المداخل الجمالية، وهذا هو تصورنا الذي يختلف مع البعض من النقاد الذين كتبوا عن تجربة محمود البريكان الشعرية حين حصروا إهتمام كتاباتهم بالأسس والمقاييس البلاغية واللغوية، وقطعا هو إغفالٌ أو هو عدم المقدرة على الوصول الى القدرات غير المرئية والمتشعبة في كيفية إدراك النص وفهمه ومحاولة إيضاح مراميه، وهو السعي الذي مارسه البريكان لعدم الوقوع في البدائل المباشرة والتي تتوفر في سياقات النص إيمانا منه بأن الأشياء في تحول مستمر واستخدامها يقتضي إدراك ذلك وبالتالي الوصول الى النمط الخاص من الموجودات التي تتقبل هذا التحول، وتنسجم مع أي ضرورة محتملة تطغي بكيانها داخل وحدات النص الشعري، وهو ما يعني أن البريكان لا يعطي أهمية للتسلسل الزمني ولا يعطي أهمية للرؤية المكانية المحددة وبذلك فأن مجالات العبث في هذين المفهومين يهيئ فرص تجاوز الحشد الصوّري المُسبق ويوسع من دائرة الافتراق بين مضمون وآخر حيث لا يشكل هذا الافتراق عبئاً على ماهيات الأشياء التي تتنقل ضمن مفهوم الأزلي الثابت والمتسلط المتحرك، ليؤمن الازدواج يؤمن الفرصة والوقت، الوقت في خلق الصورة الملائمة، والفرصة في الإفلات منها أو الثبات عليها بعد تدخل عوامل عارضة تكون تأثيراتها مقدرة أصلا في طبيعة اختيار الشاعر لموجوداته التي تتطلب شكلا خاصا من الغموض تارة وتارة نوعا أخر في طرح معضلة ما كمسوغ لفتح نوافذ مرئية على دفعات محددة من المعرفة والفلسفة والمتوارث الاجتماعي بجميع أشكاله من خلال الموضوعات التي تتصل بالكائن والكون والتي خلقت هذه المواضيع شكلاً من أشكال التأزم والقلق اللذين يتوالدان بفعل ما ذكرنا إضافة لما تتركه المتغيرات من تأثير في البنى الروحية والنفسية، وكذلك ما تتركه في أساليب التفكير وأدواته.
ويقينا أن البريكان كان يُجيد تحريك العبارات من مستوياتها الدلالية الى سياقاتها الطاردة كي لا تكون هناك ترتيبات ذات إعدادات مرئية لأن الشاعر ينبذ الإمتاع المباشر ويخفيه في محيطه الواسع الخراب، ولاشك أن ذلك يبدو جليا في نصه "القوة الطاردة" عندما يكتسي النص بأشياء من المجهولية، المجهولية التي توفر المزيد من الرغبة والاكتشاف والتوتر لدى المتلقي:
دوائر سود على بحيرة بيضاء/ زوبعة صامتة تبعثر اللون على المسافة الباهتة/ كابوس في أعين مفتوحة/ إغماء ليست له علامة/ توتر مغروس في صمت الإيقاع..
هنا يراد تحديد أبعاد اللامعقول للوصول للمحور الصرف في تشكيل الذات ، الأمر الذي يستدعي العودة لنقطة البدء أي الإمساك بأكثر من مشهد للوصول لدالة المفردة في مضمونها، وبطبيعة الحال فأن هذه المفردات لا تخلو من رمزيات ما ترتبط بأثر خفي ما، والأهم أنه لا يتصل بواقعة ما، أي أن عملية الخلق ليست عملية إستذكارية ذات رؤيا زمكانية محددة، وهذا ما نفيناه في مقدمة مقالنا، أي يمكن القول أن هناك منفىً ما يحتفظ فيه البريكان بكامل عدته وكذا قواه ويرتب من خلاله الحالات التي يريد قولها شريطة أن لا تُفهم بأنها قضايا شخصية عامة ومشتركة لأن الشاعر لا يريد ذلك، لا يريد أن يكون نصه الشعري عبارة عن رُكام لغوي يدور بمركزيته حول الحدث، فنصوصه تتحرك بها الكوابيس والوحدة والضياع والموت والخرافة والعويل وكأنه يرى أن هذا هو عالمه المجدي والصحيح وهو الذي يوفر له مضامين تلك الأشياء بعلاقات جديدة يتمتع من خلالها بإنتاجية ثرة ومترفة ضمن غاياته الجمالية التي تتجاوز كفاياتها المادية ليوسع أولاً مفاصل استيطان المشهد الشعري ويبدا ثانياً بترتيبات نوعية لقدرات النفي وترتيبات أقل من ذلك لقدرات الإثبات، وبهذه الحركة يفتح باب الانسيابية للغته التي يكتنف البعض منها شيءٌ من التعقيد وكأنه يصوغ منظومة جديدة من المعتقدات الكونية بفعل التغيير المستمر الذي يطرأ على الدالات تحت تأثير الإهمال المقصود للتسلسلات الزمانية التي تحث على عدم التوقف إزاء مكملات المعضلة كــــ "الموت…. متى، المأساة… لماذا.. وكيف، الضحايا… من.. وكم....".. أي إهمال التفاصيل التي تقوض أمام المتلقي حريته في الكشف والاستدلال.
إن فكرة الكائن هي فكرة الديمومة وفكرة الديمومة تعني الإحساس الأمثل لوجود الذات وفي وجهها الآخر تعني أن المفردة لدى البريكان تتمتع بالكفاءة والإقناع لأنها مفردات ليست بالمفردات القاموسية، وبالمؤكد فأن خلقها للعبارة سيكون على مستوى الفعل المتبادل بينها وبين أبعادها الرمزية التي تستحدثها المخيلة آنياً وهو شكل مثير من أشكال الاستخدام حين نجد ذلك متاحا في "أغنية رعب هادئ":
"لأن للنار وراء رقصها العنيف جسما من الرماد/ لأن للصحو مدى، وللرؤى رفيف،....". ومن هنا تتشكل غايات النص وهي غايات جمعية في معرفة الموت وما تعني المفردات ذات الصلة به "الإغتراب، التراب، العذاب، القهر،….".
ولعل هذه الأشياء تنعدم أو ترتبط بذات المعنى عن معنى الموت، فالمجهول أيضا هو الصمت وهو ظلام الرؤيا ولأجل هذا التأكيد لابد أن يضع البريكان نفسه في الموضع المناسب ولن يحصل ذلك إلا بالهلاك حين يتجسد كــ بوصلة تشير الى الفناء.