ادب وفن

اضواء على مجموعة كريم ناصر الشعرية / عيسى مسلم جاسم

"الشعر شراع ابحارنا، وعندما نكتب يستوطننا الشوق" هي بضع كلمات وصلتني من بلاد الغربة، المنفى الاختياري بل القسري حين ضاق صدر الشاعر وترك الوطن والاهل والاحبة، ولا مناص من ذلك، وصلت الكلمات دافئة على الرغم من البرودة النسبية في بلد المنشأ، حبرها لم يجف بعد مع أن "ستين" يوماً تفصلني بعد خط أنامل الشاعر الاهداء ووصولها لي، كنت أراه من خلال مجموعته التي وصلت عبر الطريق الجوي، مثقلة بالاختام البريدية، ومفتوحة بمقص الرقابة الحكومية قسم المطبوعات.
لم أرّ الشاعر لغاية كتابة هذه السطور، بل قرأته نتاجاته، المعززة بصورته ومن خلال جريدتنا المحببة هذه، ناهيكم عن الاتصال الهاتفي والاميلات والاصدقاء.
تألفت المجموعة من 150 صفحة بالحجم المتوسط، واحتوت على 72 قصيدة ومن منشورات: دار المخطوطات، وقد بان مظهرها الأنيق انها مطبوعة في بلاد المنفى "هولندا" الا ان جميع القصائد لم تذيل بمكان او زمان، لكن الشاعر افادنا بمعلومة في الصفحة الاخيرة بعبارة "كتبت القصائد ما بين عامي 1970 و 1982 نضحت القصائد بالمفردات الجنوبية الشعبية، والتي ولدت وترعرت في أزقة وحارات مدينته الكوت، فتكررت المفردات الطازجة "حديقة، تين، السچة، السبّاح، إفياي، إجناغ، يهلي.
سأتوقف عند المفردة الاخير: تمسك الشاعر بالوطن والمدينة والاهل بات في تماس وتناص مع الشاعر البدوي المعروف عبدالله الفاضل "ساري" حين يقول:
هلي مالبسو خادم سملهم/ وبكبود العدا بايت سم لهم
كان أهلك نجم أهلي سمالهم/ وكثير من النجم علا وغاب
يقول الشاعر:
يهلي كل ورده بحديقتكم ذهب/ يا صلاة الليل عدكم/ من تهب نسمات حبكم نكول إجت من صوبكم، فشاعرنا ثانية يتداخل هذه المرة مع "السياب" الذي عشق الظلام، فوجده الاجمل، فهو يحتضن العراق.
ثلاثة ارباع القصائد قصيرة سطورها بعدد اليدين او اليد الواحدة، وهذه حسب الدكتورة الشاعرة الناقدة نازك الملائكة عامل قوة، وتكتمل صورة المشهد ونقف عند "تيمة" اما الاطالة وحسب الملائكة ايضاً، هي وقوع الشاعر في تمرد القصيدة وما تسميه "التدفق".
القصائد متفاوتة البحور والتفعيلات، وهي تراوحت بين مدرستي التفعيلة والحداثة.
من الجدير الاشادة اليه، إني سبق لي ان كتبت مقالاً نقدياً حول قصيدة للشاعر "كصيل الريح" ونشرت في هذه الصفحة يوم 6/8/2014 والقصيدة تبوأت مكاناً عالياً فامست عنواناً للمجموعة.
الاهم تمسك الشاعر باللغة الشعبية حتى عنوانات القصائد جاءت كذلك نذكر منها: لو نسانه الكمر، السچة، جيتك أحلم، ماشين والدنيه رسن، الكمر بجناغه تينه، عطر الچفافي.
أغلب الظن ان القصائد مكتوبة البعض داخل الوطن والآخر خارجه، والحقبة الزمنية التي حددها الشاعر هي عقد السبعينيات هي سنين عجاف، نجد الشاعر بأول سطور المجموعة يقول:
إحلمت ايهفهف سنبل منه/ إحلمت يسافر بيرغ فينه/ ونبتت شجرة ابجرف الماي.. ثم يمضي ويختم القصيدة، إطيور الحب/ إترفرف للرايح والجاي.. من قصيدة "طيور الحب".
كانت ترجمة لقصة شعب باحلامه وآلامه، ومهما ادلهمت الخطوب يبقى المنظار الوردي مشاطراً، إنه مبدأ الثوار والمناضلين الاحرار. العظيم يبني الناس صرحه وهو ميت، اما الطاغية فهو من يبني صرحه بموت الناس".
ومع الاجواء العاصفة جاءت القصائد بعضها خريجة المدرسة الرومانسية "حبيتك من اول نظرة/ كلما سعرك يغله اشريك/ وبروض الحب تحضر ورده/ اشهك من اسمع طاريك " من قصيدة "كحل النور". "الانسان حيوان عاشق، ليس بحيوان ناطق، فعشقه أهم ما يميز نوعه".
وان أورقت الايام بعضاً تبقى على برميل بارود، فالفرح محفوف بالمخاطر:
الحزن هاجر وغاب، وانقفل باب العذاب/ ورد القداح سنبل/ من شواطي كلوبكم- من قصيدة "لو نسانه الكمر".
وحتى أحلام الشاعر لا تبتعد عن ابناء جلدته، فيتباهى الشاعر باحبته الفقراء: "يا هلي وطيب هواكم/ چنت اغفه ابسد صرايفكم وفيكم وهذا الامام السجاد يقول "ربي حبب اليّ صحبة الفقراء.
العينة المشار اليها من قصيدة "دلال جميلة" وهي القصيدة الاطول (63 سطراً) جاءت بانوروما اجتماعية/ ملحمية تعاشقت مدرستا الرومانسية والواقعية الاشتراكية.
وكما تشير "الميثولوجيا" الشعبية المتوارثة "لا أمان لكم يا أهل الكوفة" فلا امان لحالة الطقس السياسي للبلاد:
أريد أعبر محطات الحزن/ وأغنم ضوه الاحباب/ لوديلك شمس حلمي محطة سفر، ثم يقول: صرنه ننتظر صبح باچر يجينه/ تهنه والدنيا جزيره/ نحلم إبجية الاميره " من قصيدة "نجم النهار".
ويجسد الشاعر وحشة الغربة والشوق للوطن:
يا لعابر ضوه الكمره اعله يا هي اتريد/ اخذني وياك فختايه وفرحها إجديد.. اخذني وياك.. من قصيدة محطة سفر.
وعند بزوغ فجر البلاد، وعندما نتنفس ملء الرئات، يطفح الفرح الاسطوري والشاعر عينة لهذا الشعب:
يا وطن هدنه لسماك/ باچر الوردات ايخضرن بين ايديك/ يا وطن يا بو السلام/ باچر يغني الحمام – من قصيدة "هديل الحمام".
قد تتكرر مشاهد الحب والرومانسية، لكن هذا الحب هائل السمة يبدو أولاً للحبيبة، للعائلة والحارات ويكبر ليشمل كل الوطن، وترجمة نضالات الشعب عبر معاركه الطبقية في ظل تعاقب الانظمة الدكتاتورية "العشق وحده من يكتب القلب، والثورة وحدها من تكتب الطريق".
وعن المعنى الظاهر والباطن قالت العرب: البيت لا يبتني إلا له عمد، ولا عماد اذا لم ترسّ أوتاد يتضح لنا جانب في القصائد، يقول: "ابن رشيق القيرواني" المجاز في كثير من الكلام أبلغ من الحقيقة، واحسن موقعاً في القلوب والاسماع لاحتمال التأويل".
ومع الجزر والمد النسبي، واحياناً يصبح الحال يباباً: الشوارع صارت من الدم نهر/ وتاهت المهره إعله سچتنه الوحيده/ ولمن تهب العواصف/ تمحي كل لحظة سعيده / من قصيدة الدم والنهر، وفي قصيدة اخرى: "شنقوا البسمه على اشفاف الزغار، وعن اضطرام الشوق للأحبة، لرفاق الطريق يقول:
ليش عفتونا ومشيتو/ مرت اسنين/ وبعدكم وما اجيتوا ثم: لا خبر وديتو بجناح الحمام/ حتى ما شفنه منكم أثر.
وما زالت حصة الاستبداد حصة الأسد في حياة شعبنا فشاعرنا:
گالوا اليحچي يموت/ گالوا اليبچي يموت/ گالوا اليضحك يموت/ الجماجم صارت امن الدم سواجي، ومن جديد يندلق الفجر:
باچر ايطير الحمام/ وعالسطوح انطرز احروف السلام/ بكل مدينه انخط رسمنه وشوگنه.
وفي مقدمة قصيدة "جيفارا" يقول:
غلط من گال جيفاره إندفن گلبه/ برمل جزره/ غلط من گال جيفاره انخنگ صوته/ ابحضن صدره... نعم هذا رمز للانسانية وعابر للاثنيات والاعراق، هذا قس من كوستاريكا يقول:
"إن لم يدخل / جيفارا / الجنة فلن ادخلها، كان جيفارا قد أنقذ مدينته من طاغيها، وطيبها من الكوليرا، وحده جيفارا كان اباً للقرية، لانه وحده من كان يطعمها". في الختام فالمجموعة الشعرية سمفونية رومانسية ومقطوعة موسيقية ثورية عزفتها قريحة صديقي الصدوق كما يبدو ابن مدينتي الاصيل: كريم ناصر فشكري السرمدي لاهدائي المجموعة، وثانية لسؤاله عني وتحمل المشاق والصبر للوصول لي، اريدك سالماً.