ادب وفن

مجادلة حول  مهرجان المربد كسلعة ترفيهية (2) / جاسم المطير

دعوني استميحكم العذر، أيها القراء المربديون،  بالسؤال التالي: أليس من واجب المربد والمربديين جميعاً،  أن يساهموا بالبحث في القصيدة العراقية ودورها في تطوير الشعر العربي في الزمن العربي الراهن المليء بالمصاعب والمصائب لجميع أهله الذين ما عادوا مضطربين برمل الشعر ورجزه بقدر الاضطراب بكثير من رمل التخلف الثقافي والاجتماعي ورجزه،  خاصة أن هناك في هذا الزمان من يريد العودة بالشعوب العربية كلها إلى نماذج من الثقافة الظلامية لتقييد الناس بسلاسل الكهان والجن والأضاليل بقصد إخراج الشعراء والمثقفين عن مذاهب التقدم ا?إنساني المعاصر،  القائم على العلوم والتكنولوجيا التي تبدع وتتفنن في نقل الإنسان إلى حياة الحرية والكرامة؟أليس الجدير بالشعراء أن تكون قصائدهم شكلا ومضمونا محفزين على الحياة الإنسانية الجديدة؟، أليس من الضروري أن تكون ألفاظ القصيدة العراقية المعاصرة متميزة بالرقة والوعي ومتفننة في معانيها الإنسانية وهي تشق طريقها إلى الديمقراطية لتوفر لقارئها وسامعها بدائع لفظية عن الحرية وأن تتوسع أغراضها ليس في غزل المرأة حسب،  بل تتوسع في أغراضها عن حقوق المرأة واتساع خيالها عن مساواتها بأخيها الرجل؟،  أليس من تكاليف  الشعر ورياداته وصياغاته الملتزمة والملزمة  أن يدخل الشاعر العراقي إلى تنوع الحياة الإنسانية كما فعل البحتري?وابن المعتز وابن الرومي والصنوبري وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ومحمد مهدي الجواهري وحسين مردان ولميعة عباس عمارة ومظفر النواب وغيرهم؟، أليس من الضروري أن يفعل الشعراء المحدثون في شعرهم بالمربد كما فعل أبو نواس حين كشف بعض مظاهر الحياة الارستقراطية وكما فعل أبو تمام في السياسة وأبن الرومي في وصف ثورة الزنج والمتنبي في كشف صفات الحاكمين  والجبابرة؟.
تـُرى هل يأتي العام القادم بالجديد في مهرجان المربد بصيغته (الثقافية) كما أعلن عنها هذا العام بتحويل المهرجان إلى منبر حوار واستكشاف وسائل المشاركة العقلية  لضمان تسرب سعة الأفق وتفوق أخلاقية التسامح مع الناس والوطن بعد تجارب مرحلتين سياسيتين رئيسيتين متعارضتين،  مرحلة ما قبل نيسان 2003 حيث السلطة الفاشية الحاكمة فرضت نفسها على المربديين ليكونوا تابعين لها بعد اعتقال العقول الثقافية العراقية بعدة صيغ  وبعدة اشكال .
 أما مرحلة ما بعد 2003 فأننا  نجد  (السلطة) في زمان الديمقراطية قد أهملت وما زالت تهمل إشراك المثقف العراقي في صنع القرارين السياسي والثقافي.
 إنه الإهمال المؤدي إلى إبعاد حتى نخب التكنوقراط عن مواقع قيادية في الدولة  بما في ذلك مواقع قيادة المهرجانات الشعرية والأدبية والفنية.
 الإهمال والإبعاد يجعل غالب ساحات الواقع الثقافي العراقي  جامداً في حدود إنتاجية معينة ما زالت تبحث عن دعم وإسناد يمكنها تعديل وتوسيع جميع منطلقات الثقافة العراقية بمعايير متجددة تجعلها أكثر تطوراً وأكثر انتشاراً في أرجاء خارجية وعالمية  إذا ما غدا  الأداء الثقافي لمؤسسات الدولة  أكثر  من المتوقع .
نعم .. من الممكن أن يكون جهد الدولة، خاصة الجهد المالي، عنصراً من عناصر الاوصاف التفصيلية الأولية لتنمية المواهب الثقافية والشعرية العراقية،  الفردية والجماعية . من  الممكن حتما   أن تؤدي منظمات المجتمع المدني الثقافية (اتحادات الأدباء ونقابات الفنانين) خدمات واسعة ذات قيمة جمالية . هذه المنظمات اضطرت إلى  استبدال صالات العروض والقاعات والصالات الثقافية،  المهدمة أو غير المتهيئة، بتقديم خدماتها الثقافية في حدائق شارع أبي نواس وعلى أرصفة شارع المتنبي مما ينبئنا – مع الأسف - باستمرار المشاكل المتعلقة بنقص ال?نية التحتية القادرة على تعزيز البيئة الثقافية وتطوير الاستراتيجية الثقافية، المادية والتنظيمية.
من الضروري التأكيد، هنا، أن خطط  رفع مستوى الفعاليات الثقافية  الجديدة على أساس معايير جديدة يحتكم إليها في تقييم وصياغة الفعاليات الثقافية ومنها التعرف على القيمة الثقافية لمهرجان المربد ومدى دعمها للحياة وللمواطنين في زمان ومكان التغيير الاجتماعي الراهن في بلادنا، خاصة في ما يتعلق بتطبيق مبادئ الديمقراطية في المجتمع والدولة والأحزاب السياسية والمنظمات المدنية، التي ما زال بعضها يخضع  بشكل أو بآخر إلى جهود ٍ ترمي إلى إبعاد المثقفين العراقيين عن دورهم في هذا الزمان.
لا بد من القول، هنا، أنه لا مخرج لمشاكل المربد وغيره من المهرجانات الأدبية والفنية غير تطبيق الديمقراطية الثقافية وجعل المثقفين العراقيين مسؤولين مباشرة وكلية عن تحقيق هذا التطبيق.
 إن المبالغة بدعوة الشعراء إلى المربد من دون قواعد وأسس مدروسة جعلت كثيراً من الشعراء المدعوين  ليس لهم غير إلقاء قصيدة لا تحمل من الشعر غير حد الكفاف . وإذا ما أضطررتُ للإشارة إلى النصف الآخر من المشاركين، أعني الشاعرات، فأنني شاهدتُ تراجعاً مؤسفاً حيث كان هناك في القاعة شاعرات متخفيات  وراء الحجاب والكسل والنمط البورجوازي في ارتداء الأزياء الملوّنة الزاهية من دون أن يقحمن مثل هذا الاهتمام بقصائدهن لجعلها بمستوى رخاء وزهاء مكياجهن وأزيائهن. أغلب الشعراء من  النصفين تخفوا وراء حداثة الهندام لإحياء عهد الفل?فات والأفكار القديمة وبعثها من اجداثها وفرضها على الشعر في عراق القرن الحادي والعشرين .
 لا بد من القول أن مهرجان المربد ينبغي أن يكون وسيلة استطلاع تطور الشعر العراقي والعربي والعالمي وتعزيز دور المربديين في البحث الدائب والدراسة المنهجية لمعرفة المفاهيم الاصطلاحية الشعرية الجديدة وعلاقتها في الكينونة الإجتماعية ، في الحرية والضرورة، في حركة الزمان، والقلق، والشك، والوجود، والحداثة، وما بعد الحداثة.
ينبغي لمهرجان المربد أن يعزز دور ومكانة الشعراء والمثقفين العراقيين التقدميين الذين يحترمون (الرأي الآخر) مرحبين بكل انماط الفكر و تيارات المذاهب الماركسية المتجددة، والاطلاع على الوجودية المتجددة، والليبرالية، والبراجماتية، والوضعية، وغيرها من المدارس الفكرية المنطلقة ضد أي محاولة لهيمنة بعض المجموعات الاجتماعية المتنفذة في مرحلة ما من مراحل تطور الدولة العراقية. الشيء الوحيد القادر على تطوير ثقافتنا هو برمجة نشاط مؤسسات الدولة على برامج منظمات المجتمع المدني المتكونة من المثقفين المهتمين بالثقافة الشعبية? والفولكلور، والأدب الحديث.
يظل المثقف الحقيقي الواسع البحث والدراسة هو الأداة القادرة على تغيير العقل العراقي وتطويره برفض سيطرة  الأفكار المسبقة.  كما أن منظمات المجتمع المدني الأدبية والثقافية هي وحدها القادرة على تحرير الثقافة من أي شكل من أشكال (هيمنة السلطة) ونشر الأيديولوجيات المزيفة والتزيفية بحجج مختلفة.
كان في ظني ولا يزال أنه ليس من الصحيح أن يظل مهرجان المربد ميّالا إلى أن يكون مجرد سلعة ترفيهية سنوية لنخبة من الشعراء، بل على جميع المثقفين العراقيين أن يجعلوه قادراً على تحريك النخبة العراقية، كلها، لكي يتحول (المربد) إلى فصل سنوي ربيعي معنيّ بمواجهة بعض أشكال الثقافة المتجهة نحو إخضاع ثقافتنا الجديدة  للتقاليد السلفية وغاباتها العتيقة المظلمة والانطلاق نحو تشييد صروح حضارية جديدة.
في ظني، أيضاً، أن بإمكان الشعراء والمثقفين العراقيين أن يجعلوا من (مهرجان البصرة الشعري) منتجاً من منتجات الإبداع العراقي وقيمه الحقيقة، منتج شعري باهر وقيمة شعرية باهرة ، بل أنا واثق ، كل الثقة ،  أن التجديد في بناء وبرامج وأهداف وروح هذا المهرجان يمكن أن يكون أساسا لكل تجديد اجتماعي لأن الثقافة، بطبيعتها،  تزود الإنسان وتطور عقله بأفضل خلفيات العلوم بما في ذلك  علم الأخلاق.
قال شكسبير في السونيتة 80 عن  الشاعر:
ما دامت منزلتك شاسعة كالمحيط
تحمل الشراع المتواضع كما تحمل أشد الأشرعة اختيالاً
فإن زورقي الرقيق الأقل قدراً من مركبه
سيظهر رغم كل شيء على بحرك العريض.