ادب وفن

الأدب والدرس الجامعي .. من المعرفة إلى التقنية / زهور كرام

عندما نتأمل وضعية المعرفة الأدبية في الوعي التعليمي، وكذا في الدرس الجامعي، سنلاحظ نوعا من التراجع في التعامل مع خطاب الأدب كأنه بتهوفن باهتمام معرفي ومنهجي ووظيفي.
ولعلنا نلمس ذلك، في التراجع النسبي عن الاهتمام بنظريتي الأدب والمناهج، ثم تاريخ الأفكار والمفاهيم، وتحويل الدرس الأدبي إلى تكوينات بيداغوجية جزئية تأخذ ـ في غالب الأحيان- طابع الجزر المُتفرقة، أو تُنتج وعيا بالأدب باعتباره مجرد وحدات موزعة بين الحقب التاريخية، وغير المُنسجمة في منطقها ووجودها، ولا تخضع في تاريخيتها إلى منطق التحول/ التطور ثم الاستمرارية، ولعله توجه علمي يتجه بشكل أفقي إلى منطق الامتحان، أكثر ما يهدف إلى تكوين الوعي، من خلال تحويل الدرس الأدبي إلى وسيط لإنتاج المعرفة بما حدث، ويحدث.
يعتبر الدرس الجامعي باختياراته المنهجية، ورؤيته البيداغوجية، وتصوراته المعرفية- النقدية شكلا من أشكال طبيعة الوعي بالمعرفة الأدبية، لأن البُعد العلمي للدرس الأدبي يمنح للمعرفة الأدبية قيمة فلسفية. وعندما كانت الجامعة فضاء لإنتاج المعرفة، ومناخا علميا للانتصار لثقافة السؤال المعرفي، فقد كانت برمجة الدرس الأدبي ضمن ثقافة المعرفة. لم يكن هناك تمييز بيداغوجي وعلمي بين العلوم الإنسانية والمعرفة الأدبية وبين باقي المعارف الأخرى ذات العلاقة بالعلوم الدقيقة والرياضية وما شابه، لأن الجامعة كانت مرتبطة بتحصين المنتج المعرفي برؤية علمية من جهة، وتكوين جيل يُفكر ويُحلل ويناقش، ويستثمر مختلف المعارف والعلوم، من أجل إنتاج الوعي في الواقع من جهة أخرى. غير أن تحولات اعترت وضعية المعرفة الأدبية في منطق الدرس الجامعي، عندما بدأت وظيفة الجامعة تتراجع، وتنزاح عن أفقها المعرفي، وتتحول إلى واجهة لسوق الشغل، من خلال البحث عن صيغ ربط الجامعة بالمحيط. فقد بدأنا نلاحظ هيمنة منطق السوق على الجامعة، من خلال طبيعة التكوينات البيداغوجية، وأسلوب التدريس، وطريقة التحصيل. انعكس هذا الوضع على طبيعة حضور المعرفة الأدبية في الدرس الجامعي. ويكفي أن نتذكر كيف احتضنت الجامعة في فرنسا وبلدان أوروبية أخرى المعرفة الأدبية، خاصة نهاية الستينيات من القرن العشرين، وكيف عبَرت تلك المرحلة عن يقظة الفكر والفلسفة والتحليل، من خلال تخصصات علمية كانت تنتصر لخطاب المناهج، وتاريخ الأفكار، وتحليل الخطاب، وهي تكوينات كانت تشتغل باعتبارها دعامات منهجية ومعرفية للوعي بالأدب، باعتباره خطابا معرفيا، منتجا للوعي، ومُشخصا له، وقادرا على المُضي بالأفراد نحو التصالح مع الذات والواقع. لهذا، كانت نسبة الوعي مُرتفعة، ودرجة الفهم معقولة، ومنطق التحليل حاضرا في السلوك والكلام والخطاب، وكيف كان الأدب حاضرا بقوة فلسفية ومنهجية في الدرس الجامعي، والبحث العلمي، والمشاريع البحثية "مجلات، مجموعات بحث، طاولات مستديرة…"، من دون أن نتجاوز الحضور النوعي والقوي للفلسفة، وعلم التاريخ والاجتماع والنفس والأنثروبولوجية، وهي كلها معارف كانت تُؤسس بعلميتها جيلا قادرا على مواجهة تحديات اللعبة السياسية. نُذكر بالدور الكبير الذي لعبته الجامعة خاصة مع التحولات السياسية التي عرفها منتصف القرن العشرين، ونستحضر الدور الوظيفي للدرس الجامعي في تنمية الوعي، وإنتاج المعرفة، من أجل الانتباه إلى حاجة اللحظة التاريخية الآنية لمثل هذا الدور، في الزمن الراهن، حيث التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية وكذا الإعلامية أصبحت أكثر تحكما في سلوك وذهنية الشباب والأطفال، وأقوى مُوجه في قضايا حساسة مثل الدين والهوية والتاريخ والجغرافيا والاعتقاد وما شابه. ولهذا، ففي الوقت الذي التبست فيه المفاهيم، واختل ميزان القيم، وتحكمت اللعبة السياسية في تدبير الجغرافية والتاريخ والهوية والصراع، وساد الإعلام الذي يشتغل في أفق أجرأة اللعبة السياسية، نلاحظ تراجع تمكين الجامعة وقبلها المدرسة عن إنتاج أجيال لها القدرة على عقلنة الأشياء، وتحليل الظواهر، وخلق المسافة بين الذات المُفكرة والموضوع، بعدم تطوير منطق الدرس التعليمي/ الجامعي في العلوم الإنسانية، والمعرفة الأدبية، وإعادة تدبير منهجية التدريس لهذه المعارف بشكل يُمكن الأجيال الجديدة من مواجهة التحديات الخطيرة التي تجتازها المجتمعات العربية في زمن الالتباس التاريخي والمفاهيمي. ولهذا أيضا، نلمس انشغالا كبيرا بمناهج الإصلاح في التعليم الجامعي، في إطار التقنيات البيداغوجية الضيقة، وتشجيع انخراط الطلبة في العلوم الرياضية والفيزيائية والعلوم الطبيعية والمعلوماتية، كما وجدنا مع جامعات عربية كثيرة تًصرح بضرورة ولوج التخصصات العلمية الدقيقة، وتعمل على تشجيع هذا التوجه بصرف منح وامتيازات ومكتسبات، كما تُمرر فكرة التفوق بالاستغناء عن العلوم الإنسانية والمعرفة الأدبية، وتصورات عربية أخرى تُسوق لمفهوم الذكاء المدرسي، والاجتهاد التعليمي بالابتعاد عن التخصص الأدبي، حتى صار هذا الأخير مُرتبطا في الذهنية الجماعية بالكسل المعرفي، وبالتخصص غير المرغوب فيه، نظرا لأن حاجة السوق أصبحت هي المتحكمة في التوجه. أمام هذه الصورة السلبية للمعرفة الأدبية، بات من الضروري إعادة النظر في المعرفة الأدبية والدرس الجامعي، من خلال اعتماد طرق بيداغوجية جديدة لتدريس الأدب، وفق رؤية فلسفية تضع الأدب في قلب المعرفة.
ولعل من بين التصورات المعرفية التي يمكن اقتراحها على المهتمين بثقافة الأدب، وبتدريسه إعادة ربط الجامعة، وخاصة كليات الآداب والعلوم الإنسانية بالوظيفة التاريخية، التي بموجبها يؤدي التعليم الجامعي دورا رائدا في التثقيف، والتكوين المعرفي، وتنمية الذاكرة الثقافية، وتأطير الوعي بالتفكيك والترتيب والتنظيم والتحليل، يبدأ ذلك بالإيمان بدور الأدب في التنمية، والتطور المجتمعي، وبالحاجة المُلحة للأدب في زمن الالتباس، لأن غياب الإيمان بالأدب باعتباره ضرورة مجتمعية وحضارية وإنسانية قد يؤدي إلى بناء خطاب مُضاد للأدب.
يشتغل هذا الإيمان في وضع الرؤية الفلسفية لمنهجية تدريس الأدب، التي تبني بدورها ـ خطاب المعرفة الأدبية في المنظومة التعليمية. ولعلها رؤية تغتني من واقع التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، التي تفرض تحديات كبرى على المجتمعات والأفراد اليوم، حيث الصراعات بين أفراد المجتمع الواحد، والحروب بين أنظمة غير متكافئة في الإمكانات، والاختراقات أصبحت لغة الزمن، أمام هذا الوضع، نحتاج أكثر إلى المعرفة الأدبية والعلوم الإنسانية من أجل تحصين الوجدان من الفراغ الوجودي، وتأمين العقل من الانزياح عن المنطق، حتى تتمكن المجتمعات من تجاوز اللحظة التاريخية بدون خسارات تُربك المستقبل وتُعيق زمنه. إن قراءة الأدب وتدريسه علميا، وفق رؤيتين ـ على الأقل- واحدة تعتمد تصورا فلسفيا يجعل الأدب إمكان من الإمكانات المعرفية التي تُمكن الطالب من الوعي بتاريخه وهويته ولغته وأسئلة واقعه، وتُسهم في إعادة الاعتبار للدرس الأدبي، وجعله تكوينا علميا شأنه شأن العلوم الدقيقة والعلمية الأخرى، مما يستوجب اهتماما بالأدب باعتباره معرفة وثقافة، ورؤية تأخذ أهميتها البيداغوجية من تدريس الأدب بطريقة وظيفية في الحياة والمجتمع، عندما يصبح الأدب مادة يمكن استثمارها في الحياة الفردية والجماعية، وتجعل المُتلقي/ الطالب يُقبل على الأدب برغبة واعية، من شأن ذلك أن يُعيد للأدب اعتباره المعرفي. إن ربط الأدب بالتاريخ والحياة، مع التركيز على تصور فلسفي لمنهجية تدريسه، يُعد خطوة مهمة لإعادة الاعتبار للأدب قراءة، وتدريسا واختيارا علميا وتوجها تعليميا. فحضارات الشعوب لا تقوم بعلوم دون أخرى، ومعارف في غياب أخرى، واعتماد اختيارات علمية مع إقصاء أخرى. إن التوازن الوجودي للمجتمعات والأفراد يتأسس على التوازن في النظر إلى المعرفة المتعددة والمتنوعة بالأفق والأهمية نفسيهما. عندما غاب البعد الوظيفي المعرفي للأدب في الدرس التعليمي، استقطبت الجوائز الأدب، فتغير الأفق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
روائية وناقدة مغربية