ادب وفن

لغة الكتابة / زاهر نصرت

من خلال قراءتي لبعض القصص القصيرة لكتاب عراقيين معروفين وكذلك لبعض المقالات التي تعنى بمختلف الشؤون لاحظت وجود الكثير من الكلمات الوصفية الغريبة والنادرة عن التداول اللغوي وما تعكسه هذه الحالة من غموض وضبابية في فهم احداث القصة او المقالة والعبرة او الغاية منهما من جانب، ومن جانب آخر قد تحدث نوعاً من الملل لدى المطالع او القارئ بعد قراءته لأسطر محدودة ومن ثم يتركها بسبب عدم فهم معاني هذه الكلمات.
لغتنا العربية توصف بأنها لغة غنية جداً وربما كانت أغنى اللغات الحية على الاطلاق، فلا يوجد فن حديث او علم حديث الا ويمكن ان تستوعبه اللغة العربية وتعبر عنه بدقة شديدة ، واذا كان هذا لا يحدث احياناً كاستمرار التدريس في بعض الكليات العلمية باللغات الأجنبية، فإن العيب في ذلك فينا وفي تقصيرنا وليس في اللغة.
والثراء الشديد الذي تتميز فيه لغتنا العربية، كما انه ميزة فقد كان يشكل أحيانا مشكلة. ذلك ان فن التعبير بالقول والكتابة هو كلمة ومعنى، لغة ومحتوى. وفي عصور الانحطاط مثلاً حين كان يجف الفكر ويتجمد، كنا نجد الكُتاب يقفون عند حدود الكلمات وبحر اللغة الواسع فيتنافسون في استخدام غرائب الكلمات والمهجور منها إثباتا للعلم والفصاحة.
اما في عصور النهضة فالفصاحة معناها الفكر والقدرة على التعبير عنه وبأسهل الكلمات ، لان ثراء لغتنا يتمثل ايضاً في قدرتها على السهولة والبساطة ، والبساطة توجه ذهن القارئ الى المعنى، في حين التعقيد قد يصرفه عن المعنى واحياناً يقصد به إخفاء الفراغ الفكري.
وهل من مثل أعظم من الاحاديث النبوية الشريفة المأثورة عن النبي « صلى الله عليه وآله وسلم « ؟، انها كلها تستخدم ابسط الكلمات واقصر الجمل في بلاغة لا نظير لها .
وفي تاريخ الادب العربي هل هناك مثل بساطة أسلوب الجاحظ ؟ فلننظر إلى كتابه « البخلاء « وكيف يروي لنا فيه القصة ويرسم اشخاصها في كلمات بسيطة وايجاز عبقري وكأن كل كلمة حبة لؤلؤ موضوعة في مكانها دون تقعر ودون زيادة او نقصان ..
ومنذ بدأنا نأخذ بأسباب النهضة مال الكُتاب مرة أخرى الى البساطة والبلاغة في القول دون حاجة الى التقعر والبحث عن الغريب من الكلام واذا كان هذا لا يعجب البعض فانهم ربما لا يدركون ان اللغة أداة ووسيلة، فهي ليست هدفاً مقصوداً لذاته وانما هي وسيلة للتعبير عن شيء، ومعيار البلاغة هو القدرة على التعبير من ابسط طريق ودون اخلال باللغة طبعاً .
وقد حدثت هذه التقلبات تبعاً للعصور في كل اللغات الكبرى، ويروي لنا كاتب روسي انه ذهب في شبابه يعرض نموذجاً لكتابته على عملاق الأدب الروسي ليو تولوستوي وكان يصف فيما يبدو مشهد الصباح وصفاً معقداً فصاح فيه تولستوي:كفى!، قل « الشمس تشرق والطيور تغرد « هكذا ببساطة .. الا اذا كان ليس عندك شيء مفيد تريد ان تقوله!.