ادب وفن

أعمال التشكيلي مهدي شاوي.. بين المتلقي والفنان / أحمد بجاي

من غير المنطقي أن يكون للعمل الفني التجريدي التعبيري قراءة مباشرة وصريحة, ذلك العمل المفعم بفاجعة حرب طاحنة ومستمرة منذ سنين طويلة وطويلة جدا تاركة خلفها ملايين المنكوبين في اكثر بقاع العالم حساسية, العراق.
ومن المنطقي جدا, من ناحية أخرى, ان تكون مسؤولية الفنان مبهمة وغير دقيقة الخطوط ازاء عمله الفني لهول الصدمة الغير متوقعة زمنا ومكانا رغم رسوخها وتكاملها في ركن اللاوعي عند قراءة الفنان تلك الكوارث المتكررة عبر الزمن وبنفس ادوات التغيير في كل زمان وفي كل مكان وفي كل حدث في عالمنا اليوم الذي يبدو في طريقة لطمس ذائقة المتلقين وتوجيهها بشكل ميكانيكي مجرد من معنى إدراك الجمال والفكر بالمفهوم العام كتوظيف إمكانات الفنان في المجال الاقتصادي او السياسي او حتى العلمي كجزء مكمل خلافا لما طالب به الكثير من الباحثين كالباحث الايطالي في جماليات الفن, بينيديتو كروجَه من فصل الفنون التي تعتمد على رؤية وتنبؤ الفنان المستقبلية عن السياسة والاقتصاد والمجالات العلمية التي تعتمد النظريات والافتراضات المعرضة للدحض والاستبدال.
يقف المتلقي مشدودا امام اعمال الفنان, مفتونا بالألوان الحارة الصريحة محاولا الولوج الى حركة اللون في فضاء اللوحة وفك الرموز والدلالات ثم تحويلها الى مفاهيم قريبة منه مكانا ولكنه لم يشهد مرارة ابتعاد الفنان قسرا عن ذكرياته وتغير الأشياء والأمكنة التي اعتاد ارتيادها، بل وحتى الأشخاص ولم يعش حالة قلق وفرح الفنان اثناء تنفيذ العمل وقدرته على تكوين أواصر انسانية ملتهبة الالوان كجسور شرقية بينه وبين المتلقي الشرقي والغربي على حد سواء, وربما كبديل للغة المتداولة فحين تقول الوطن الاول أو الوطن الأم يعرف المستمعون انك تقصد موطنك الاصلي, موطن الطفولة والشباب, تماما كقراءة مفردات العمل الفني ولكن بشكل اكثر تمسكا بحاستي البصر واللمس.
يمسك الفنان بكل خيوط مرآته العاكسة احداث مجتمعية او فردية موظفا ادواته المعرفية والبصرية والتقنية المكتسبة عبر سنين طويلة من ممارسة العمل الفني ليفتح نوافذ مغلقة ويطرح تساؤلات تقترب من الوجود والعدم يضعها امام انظار المتلقين الذين بدورهم يحاولون فتح آفاق جديدة وكسر شفرات الشكل واللون والتكوين لترجمة اعمال الفنان التشكيلي مهدي شاوي.
المدينة والذاكرة
يشيِّد الفنان مهدي شاوي مدنه الشرقية الما بعد الحداثوية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بما ستؤول اليه في المستقبل القريب متخذا من خزينة البصري والمعرفي لمدن الامس مرجعا يحتكم اليه في السكينة والطمأنينة التي ما تلبث ان تحترق من جديد في كل تفصيل من اعماله الغالب عليها اللون الاخضر والابيض والاحمر الدموي والأصفر الصريح تارة و"الأوكر" تارة اخرى.
"لأول وهلة, تبدو المسافات بين فنان عراقي وفنان عراقي آخر, ممتدة متطاولة كما لو كانت بلا نهاية, ولكن تدفقات الزمن المتواتر سرعان ما تظهر فجأة لتحطم أطول هذه المسافات, فتدني اعمالا فنية عاشت في فترة ما, من اعمال فنية أخرى ولدت في الفترة ذاتها , حيث تبدو جميعا وكأنها كلا شكليا لا تمايز بين وحداته!. وحين تمحى صورة" المدينة، "من اللوحة العراقية بعد ازدهارها في رؤية جديدة"، "تنقيطية" احيانا وما "بعد انطباعية" احيانا اخرى, يظل الفنانون العراقيون حيارى يفتشون عن بيوتهم التي حجبها غبار الزمن فلا يجدون الى ابوابها العتيقة المغلقة من سبيل, ذلك لان " المدينة " لم تعد تحوي احلامهم الرومانتيكية بعد ان صفعت وجهها القديم رياح العصر الحديث فأحالتها الى ما يشبه الذكريات, وهم لذلك يرحلون منها مكرهين لأن عالما جديدا قد نما فيها وانبثق من اعماقها كأشجار الاساطير".
يستوحي شاوي تفاصيل المدينة وحركة سكانها وتلاصق بيوتها وتعرج ازقتها من صور قديمة لازمته ربما ما يربو على اربعة عقود من الزمن خارج مدنه التي اودع فيها صباه وشبابه, مستخدما اللون الاحمر الدموي كإشارة للألم واستنزاف طاقة الانسان في ابسط قراءاته, ثم اللون الازرق بكل تدرجاته ايحاء للسماء ومسطحات الاهوار كبقاء ازلي يحتضن المدينة التي تكون عرضة للزوال والدمار والتغيير, استخدم الفنان ايضا اللون الاصفر الصريح بمساحات صغيرة لكنها مدهشة ومطعمة بمساحات صغيرة ايضا باللون الابيض لتسحب عين المتلقي رغم تجاورها مع لون صريح آخر اكثر تأثيرا وهيمنة على فضاء العمل كوحدة متكاملة.
المتلقي والرسم اللا تشخيصي
اكد ليوناردو دافنشي على السمات الثقافية في الصورة حيث ينجز العمل الفني معتمدا على شروط خاصه به كالدراية المعرفية والمهارة الفنية ثم يقارن دافنشي بين الصورة, اللوحة, والفنون السمعية والبصرية الاخرى كالموسيقى والمسرح التي ينتهي تأثيرها على المتلقي بمجرد سماعها او الانتهاء من مشاهدة العرض المسرحي المحدد بزمان ومكان معينين ليعلن تفوق وازلية الصورة التي يصنفها كشيء يشغل حيزا من الفراغ.
الاختلاف بين الرسم اللا تشخيصي بشكله الشمولي وصورته الحقيقية على ارض الواقع وبين الرسم التشخيصي الذي يمكن قراءة مفرداته بوضوح, تكمن في كيفية تعامل المتلقي معه, هو انك عندما تقول مثلا كلمة "باب" فتعني بابا فقط مجردا من ماهياته الاخرى, هل هو مصنوع من الحديد او الخشب, واي نوع من الحديد ولونه ونوعه طلائه والى آخره ولكنك تعرف دلالة الباب عموما ولا تصنفه ضمن دلالات اخرى كالشباك مثلا, وعليه نستنتج ان الباب عبارة عن صورة لكل انواع الابواب وليس بابا مثاليا محددا.
أحيانا وتحت ضوء القمر في ليلة صيف شرقية ترى شيئا عن بعد دون تمييز ملامحه لتتكمن من تصنيفه تحت صورة معينة "مثاليا" فيتملكك الخوف والترقب ولكنك سرعان ما تقترب منه وربما تتلمسه تتعرف عليه وتصنفه تحت تصنيف محدد, اي أنه شيء له صفاته الخاصة المعرفة لدينا والمتفق عليها كالباب مثلا او الرسم اللا تشخيصي ودلالاته في أعمال شاوي بكل تفصيل صغير منها تتوضح لدينا صورة مشروطة, مكانية او زمانية, تمكن حواسنا, البصر واللمس, من تعريف التفصيل وفهمه فكريا ومثاليا مقرونا بوصف الشيء وخفاياه كأن يكون زقاقا صغيرا يحتضن بيوتات شرقية مستوحاة من ما تبقى من ذاكرة الفنان أو مجموعة اشخاص يحتضنون الاهوار والشمس التي لا مفك لنا منها او التنازل عنها منذ ان حط السومريون رحالهم في جنوبي العراق حيث ينحدر التشكيلي مهدي شاوي.