ادب وفن

«الخال فانيا».. بين الواقعية الخيالية والتقسيم الطبقي / صباح هرمز

اذا كان غوركي يصر على مشاهدة "الخال فانيا" التي أخرجها ستانسلافسكي عام 1889 في موسكو، مرة تلو المرة، فأنا أصر على أن أشاهدها مرات تلو المرات من أخراج كامران رؤوف التي عرضت في أربيل في التاسع من تشرين الثاني عام 2015، وقبلها بعدة أيام في السليمانية وايران، أي بعد قرن وربع القرن على عرضها لأول مرة في روسيا القيصرية
أود أن أشاهدها لا لأنها تفيض رموزا وأفكارا ويجعل شكلها منها عملا أصيلا تماما غير قابل للمقارنة كما يقول غوركي، وأنما لأنها تصلح لأن تقدم في كل زمان ومكان، وها هو موضوعها الدائر حول بيع المزرعة يتطابق تماما مع الوضع القائم في كردستان خاصة والعراق عموما من خلال أهدار ثروات العراق من قبل المسؤولين الفاسدين وتعبئة جيوبهم بالمال الحرام الذي هو أصلا وأساسا ملك الشعب وليس للصوص.
أن مسرحيات تشيكوف كما هو معروف صعبة الفهم، وهي لهذا قابلة للتأويل، وحتى لو لم تكن كذلك فمن حق المخرج أن يتمرد على سلطة المؤلف بعد مرور حقبات طويلة من الزمن عليها، اذ ليس من المنطق أن تقدم مسرحياته في العصر الراهن كما كان يمليها على ستانسلافسكي باعتبارها مسرحيات كوميدية وليست تراجيدية، ولو ذهبنا مع كامران مثل ما ذهب تشيكوف مع ستانسلافسكي لوقعنا في خطأ كبير وظلمنا كامران وفريق العمل معه، لأنني أنا الأخر أفهم أو هكذا يبدو لي أن مسرحياته تراجيدية وليست كوميدية. وهذا الرأي ليس جديدا ولا يأتي بالتعاطف أو التضامن مع العرض، ومن يرغب في التأكد منه فبوسعه الرجوع الى كتابي "قراءات في المسرح المعاصر المطبوع" عام 2013.
وبقدر ما نحن هنا لسنا بصدد هذا الموضوع، بقدر ما يهمنا رؤية المخرج، فأن أولياته أنصبت بمنحيين،أولهما هو الحب المتبادل والمتنافر بين شخصيات المسرحية، تحديدا بين هيلينا والطبيب من جهة وبين صونيا والطبيب من جهة ثانية وبين فانيا وهيلينا من جهة ثالثة، وثانيهما بيع المزرعة، جاعلا من هذين الخطين يسيران باتجاه واحد ليلتلقيا في النهاية في نفق مظلم لا عودة فيه الى الخلف ولا تقدم بخطوة الى أمام لتوظيفهما في أداء الممثلين والتقنية التي يعول عليها في أسلوب اخراجه لإيصال رمزية المزرعة الدالة على الوطن أو الأرض لا فرق، بطريقة هينة على المتلقي، عمد الى أعطاء رقعة مديدة الى منظر المسرحية ، موزعا بالمثل قطع ديكورات عديدة عليه، وسعيا إلى إشراك المتلقي في الحدث فقد سحب منظر المسرحية الى ما يكاد يلاصقه، وقام بتقسيم المنظر تقسيما طبقيا اتساقا مع أنحدار شخصياته للطبقة التي تنتمي إليها من خلال توزيعه على ثلاثة أقسام، حيث تحتل الطبقة المتنفذة والرامزة الى السلطة المتمثلة بالبروفيسور في عمق المسرح، والطبقة التي تدافع عن المزرعة الرامزة الى الشعب في أسفل المسرح "مقدمته" حيث تجري الأحداث التي لها شأن متمثلة بـ فانيا وصونيا ، والوسط الذي جاء على هيئة قوس دال على الحب، حيث تجري فيه هذه العلاقة من جانب واحد، كما في حب صونيا للطبيب وحب فانيا لهيلينا وحب الطبيب لهيلينا وبالعكس.
ولأن المخرج يكسب نهاية المسرحية بعكس تشيكوف بصيصا من أمل، يوازن الجانب الأيسر من المسرح بآلة كمان مقابل الأشجار العارية في الجانب الأيمن منه، بهدف خلق نوع من التوازن بينهما "الميزانين". إلا أن كفة منحى اليأس تبدو أكثر رجحانا رغم وجود بئر بجانب آلة الكمان الدالة على العطاء، لنشر هذه البئر بفروع الأغصان العارية وانعكاس وجه صونيا في مياهها بما يوحي لها بأنها دميمة، أذ أن الأشجار العارية ووجه صونيا الدميم يقومان بامتصاص الرمزين الدالين عليهما وهما جمال الطبيعة وجمال الانسان، كما أن نزوعه في بداية العرض ونهايته الى المفردات الدالة على الطقس والآلات الصوتية التي اشتغل عليها تشيكوف في النص كهطول المطر ودقات الفأس، يهدف لخلق مثل هذا التوازن أيضا، أي بغلبة اليأس على الأمل من خلال اقتران هطول المطر بمرض اسكندر، حيث يفز من نومه بهلع ايحاء الى بداية الشر ليلعب اليأس نفس الدور الذي لعبه في التوازن الأول، ممتصا القدر الأكبر من رمزية المطر الدالة على الخير.
ولتوظيف الأقسام الثلاثة للمنظر لأداء ممثليه وفق رؤيته الطبقية لثيمة المسرحية، فقد سعى من بداية العرض إلى أن ينزع بهذا الاتجاه، ذلك عبر حصر حركة اسكندر ضمن حدود عمق المسرح تقريبا، وفانيا وصونيا وهيلينا والطبيب في الوسط، حيث تكشف هيلينا بنظرة عابرة انجذابها الى الطبيب، وفيرز في مقدمة المسرح يسحب الماء من البئر.
واذا كان الفنان كامران رؤوف، يشتغل في معظم عروضه على طريقة فاختانكوف الأخراجية المعروفة بالواقعية الخيالية، فهو كذلك في هذا العرض اتبع نفس النهج، أي المزج بين الحقيقة السايكولوجية ودرجة كبيرة من الوعي بظاهرة التمسرح، واعتمد في أداء الممثلين على الوسائل المسرحية في التعبيرعن انفعالاتهم في الوجه والعينين والطبقة الصوتية وحركة اليدين والأصابع والرجلين بالأضافة الى الصمت والحشرجة والحسرة والأهة والبكاء، واستخدمها في المشاهد التي يصل الحدث ذروة أنفجاره ومن قبل الشخصيات المؤثرة في المسرحية، وان كانت كل الشخصيات في مسرح تشيكوف تتسم بنفس القدر من التأثير، وأزعم الشخصيات التي تحتك مع بعضها أكثر من الشخصيات الأخرى، كصونيا مع خالها فانيا وهيلينا مع صونيا وفانيا والثلاث الأجيرات مع الطبيب.
واستيعابا من المخرج للقدرات المتوفرة في الوسائل التعبيرية بالتعويل عليها بدلا من الكلمة، فقد ركزعلى أربع منها، وهي انفعالات الوجه وحركة أصابع اليد والحسرة أو الآهة والصمت. ولم يأت استخدام هذه الوسائل من قبل المخرج اعتباطا، وانما جاءت لكل موقف وحالة بما يبررهما، كحشرجة صونيا وهي ترى وجهها في البئر، والصمت الذي يتخلل حواراتها مع الطبيب في مشهد اقراره بعدم الانجذاب لأحد، وهي تخاطبه بجملة "لا أحد لا أحد" القاتلة، وهو صمت مشحون بالعذاب والألم، لا نهاية لهما، ترافقه أنفاس مكبوتة عاجزة أن تفصح عن ما يعتمل في صدرها، وأشهر كاتب مسرحي وظف الصمت في مسرحياته هو تشيكوف، فقد جاء أثنتي عشرة مرة في نص الخال فانيا وثماني مرات في بستان الكرز. ويعد انفعالات الوجه الذي يرتكز فيه البصر والفم من أبرز الوسائل المسرحية قدرة على ايصال المعلومة المطلوبة الى المتلقي، لسهولة أدائها من قبل الممثل وفي الوقت نفسه سهولة استلامها من لدن المرسل اليه، ولكن شريطة أن تصدر بمصداقية وبمنآى عن التصنع والتكلف، وتتلقى بنفس هاتين الميزتين، متجسدة في أداء معظم مواجهات فانيا مع البروفيسور أو تهدئته من قبل صونيا، وكذا الحال بالنسبة لانفعالات وجه هيلينا المقرونة بجفلات سريعة تنم عن الخوف والمباغتة تتخللها حركة الأصابع لما يزيد التوتر في معظم المشاهد التي تجمعها مع فانيا وهو يفصح بحبه لها أو يسعى إلى التحرش بها، والمشهد الذي تتوعد فيه صونيا في سعيها إلى التأكد من انجذاب أو عدم انجذاب الطبيب اليها، رغم صعوبة المهمة التي تقوم بها لأنها هي الأخرى منجذبة اليه ومشهد مباغتة فانيا وهويحمل الزهوربيديه الى هيلينا والطبيب يغازل هيلينا، اذ في الوقت الذي فيه تصدر منها آهة فزع، تلعب عينا فانيا في قوة التفرس باتجاههما من جهة وحركة يده الممدودة الى أمام وهي تحمل الزهور التي تتساقط منها من جهة أخرى بلوغه قمة اليأس.
كما جاءت مفردات الجو النفسي كحالات المطر والرعد والمؤثرات الصوتية أكثر من عشرين مرة في نص الخال فانيا وبستان الكرز مقابل ثلاث أو أربع مرات في العرض.
واذا كان مخرج المسرحية كامران رؤوف لم يلتزم بنصيحة المؤلف في كون الخال فانيا مسرحية كوميدية، الا أنه سار على نهجه في الايقاع البطيء لها، هذا الأيقاع المفروض من داخل بنيتها الناجم من برودة حدثها وحلم شخصياتها وفترات الصمت التي تتخللها قياسا بالمسرحيات ذات الايقاع المألوف والسريع، مطبقا أياه بالتركيز على حركة الطبيب الجسمانية في سيره وحتى وقفته أحيانا مطأطئ الرأس، وبالتعويل على هدوءه، لارتباط التوازن الجسدي بالتوازن النفسي في تحقيق سلامة الايقاع. بالأضافة الى الجمل المتدفقة شعرا في معظم حوارات صونيا وبالمقابل اختلاط نطق ايقاعها في الحوارات الأخرى، تحديدا في مشهد أقرار الطبيب في عدم انجذابه لأحد، وهو أجمل مشهد في المسرحية. وينزع تشيكوف الى بث هذا العنصر في معظم مسرحياته لخلق الملل لدى المتلقي لأن الحوارات التي تأتي على لسان شخوصه مستمدة من الناس الذين يتحدثون فيما بينهم في حياتهم اليومية بشكل أعتيادي، بقصد نقل هذا الملل من واقع الحياة الى خيال الفن.
لقد قام كامران رؤوف بإعداد الخال فانيا مستفيدا من مسرحية بستان الكرز لنفس الكاتب، تحديدا من رجل الاعمال "لوباخن" مستغلا عدم امكانية صونيا صاحبة المزرعة الحقيقية دفع الضرائب المتراكمة عليها المعروضة لبيع المزاد العلني ليقوم هو بشرائها. كما استمد شخصية "فيرز" الخادم عن بستان الكرز واضافها الى الخال فانيا التي أستفاد من حركتها الدؤوبة على المسرح ووقوفها حاجزا بين فانيا والبروفيسور للحيلولة دون إيذاء الأخير.
لجأ الى هذه العملية لتجنب الحل التوفيقي الذي انتهت به الخال فانيا بالصلح الذي يقوم بين فانيا والبروفيسور وسعيه إلى أيجاد حل يتواءم مع الظرف الحالي الذي يمر به العراق في محاولة منه للنفاذ من المأزق الذي يحاصر شخصياته لمنحها بصيصا من أمل.
يبدو لي أن المهمة التي قام بها لوباخن، وهي بيع المزرعة، لا تختلف كثيرا عن توجه البروفيسور بالهيمنة على المزرعة بدعوى أن زوجته قبل وفاتها قد أهدتها أو أوصتها اليه لا فرق، لذلك كان بالأمكان مسك هذا الخيط والانطلاق به نحو النهاية، سيما وفانيا والبروفيسور يتنافران من البداية مع بعضهما البعض ولا تلتقي وجهات نظرهما حول مختلف قضايا الحياة.
وبقدر تألق كل الممثلين في أدوارهم، وأخص بالذكر الثنائي يونس حمه كاكه في دور فانيا وسه ر كول حسين في دور صونيا الى جانب سولين دلباك وبيشره و حسين وبقية الممثلين، بنفس القدر احتوت المسرحية على مجموعة من المشاهد الجميلة، كمشهد احتضان صونيا لرأس فانيا، وانعكاس وجه فانيا في البئر، ومشهد ثمل الطبيب وفانيا، والحركة البطيئة الرامية لقتل البروفيسور من قبل فانيا، والمشهد الأخير حيث يجمع بين فانيا وصونيا ووجههما يلاصق الأخر، ومشاهد كثيرة أخرى.
وفي الختام لا يسعني الا أن أشد وبحرارة على أيدي كادر العمل وفي المقدمة منهم مخرج ومعد المسرحية الفنان كامران رؤوف لاختياره الموفق لهذا النص المنسجم مع المستجدات التي يشهدها العراق، والجهد الذي بذله فيه من أجل أن يقدم لجمهور المسرح الكردي عرضا يليق بمستواه المعروف عنه في السبعينيات والثمانينيات الذي بات حلما يراود الجمهور والمسرحيين في آن لأكثر من ربع قرن.