ادب وفن

سوء تفاهم بين عواد ناصر و»ابو جعفر المنصور»! :لا تبنها!.. فهي ستطردنا.. واحدا واحدا !/ عامر بدر حسون

وقف عواد ناصر، في العصر العباسي الاول، امام ابو جعفر المنصور ناصحا:
- لا تبن بغداد هنا او في اي مكان اخر يا ابو جعفر! لا تبن بغداد!
لكن السلاطين لا يتلقون اوامرهم او نصائحهم من الشعراء، فكيف والنصيحة تأتي من شاعر مشرد الروح، لا يعرف أين يبني عشه، فكيف ببناء المدن؟
***
وحين جاء عواد ناصر الى العام 1990 في دمشق، وقف مرة ثانية لائما «ابو جعفر المنصور» ومواصلا حوار النصيحة:
(قلت لا تبنها !
يا ابا جعفرٍ
سوف تطردنا واحدا واحدا!
وستكسر اجنحة العندليب بماء شناشيلها
ليتك تعدل عما نويت!
فكعبتنا ما انتضت سيفها عندما أبصرتْ فيلها
ما بنا نستبدّ بنا..
ثم يودي بنا حبنا؟
قلت لا تبنها!
انها فتكت بابنها!)
وبعد اكثر من الف عام يتلفت عواد، فيجد نفسه في منفى، والمدينة التي بناها المنصور (رغما عن انف الشاعر وما رأى) تبتعد.. وتوغل في البعد.
لقد اخطأ مرة (وما اكثر اخطاء الشعراء الحالمين) فقبِل ان بغداد قد بُنيت، وانها صمدت وانها المدينة.. فسماها مدينته وأودعها أمه وطفولته وشبابه وحكمته وحماقاته واحلامه، ووضعها في صرة بحجم احلامه وخساراته، واودعها في مكان نسيت او نسي هو اين يكون؟!
لا يهم! فهو يعرف بيوتها الفقيرة بيتا بيتا، ويعرف باراتها الادبية كأسا كأسا ويعرف أمه أماً أماً!
هي نظرة شعراء مهزومين او حالمين بالنصر.. دائما.
***
وفي المنفى العربي، بيروت ودمشق فيما بعد، كان عواد يبدو وكانه يلاحق شيئا لا نراه نحن ولا نعرفه، فنقول انه لحق بنظرة ناضجة او بتنورة منتشية بحركتها.. لا! ليس هذا بل هو يلاحق سهرة او كاسا! بل كتابا! بل موتا!
موتا؟ ربما.. فها هو يحمل السلاح ويذهب الى جبال كردستان، مع انصار الحزب الشيوعي العراقي ليقاتل صدام او ابو جعفر المنصور! (لم يقل) ومع الشعراء لن تكون على يقين ابدا. فاليقين يقتل الشاعر.. يصرعه، يحوله الى انسان هادئ ومستقر يعرف موعد تقاعده وموته والى اخر ما يعرفه بقية البشر.
***
وعاد من هناك.. وبدا لي انه لم يجد ما يبحث عنه، لانه استمر في البحث، في ظننا وربما ظنه، عن امرأة أو كتاب أو كاس أو صحبة اصدقاء، لكنه لم يستقر ولم يعثر على شيء، اعرف هذا حين تنزل شفته السفلى بشكل مفاجئ فيبدو كطفل خيب المطر النازل امله باللعب خارج البيت.
***
وكان حضن دمشق الدافئ وليلها ومساحة الاحلام فيها، تبدو كمساومة خفية ومغرية لنسيان المدينة الاولى، المدينة التي اعترض على بنائها، والتي لم تؤوه يوم كان هاربا من الحكومة. فيقف على شرفة الليل ويتذكر (بموضوعية) وينطق بما لا يقال الا شعرا:
(لا.. ليست اجمل عاصمة..
لكنها احلى من المنفى
واكبر من دمشق
وهي الولودة انجبت حشدا من الانهار والشهداء
وهي البيان محرّضاً
وهي الصباحات التي انبثقت من المذياع ليلاً اسود الانباء!
وهي فيالق الحراس في باب العراق محصنين بآية الكرسي
والسيف الذي يتناهب الابناء!)
ولم اقل ولن اقوّل الشاعر؟ لنترك هذا ونستسلم للحجج التي قدمها عواد عن «سوء الفهم» بينه وبين المنصور!
(لا ليست اجمل عاصمة
هي طفلة محبوسة بالصفْ
وهي البدايات التي انطلقت واقصر خاتمة
هي قامة مهدومة الساعدْ
هي شرفة تهتز عند القصفْ
هي دمّنا الصاعدْ
وهي الاصابع تنزف الحناء فوق الدفْ
وهي اسمنا
وهي امنا في فقرها المترفْ
وهي التي اقترحتْ:
نمضي الى بيروتْ!)
(وهي الجنائن والجنون
وهي التي من بين ادماناتها سكنى السجون!
وهي النبأ.
وهي اشتباكات الصحيح مع الخطأ!)
(لا ليست اجمل عاصمة
منذ اشتقاق (النصر) من لغة (اندحار)
تأتي القذيفة من جهات الكون
يأتي اللص في وضح النهار
وشاعر الجنرال يأتينا فخورا
او وقورا.. كالحمار!!
تأتي الثمار بغير ما يعد البذار
البيت مال وظلت العتبة
سهرانة عند دماء الباب
اشواقها خرساء
مقتضبة:
- سلم على الاحباب!)
***
وفجأة قال عواد اريد ان اعود إلى المنفى!
كان على المنصة وقد انتهى تواً من قراءة بعض قصائده في منتدى بيتنا الثقافي، كانت الجملة نافرة او جوابا على سؤال، فأحسست ان عواد يعود إلى البحث من جديد.. عن المرأة.. الكتاب الكاس الصحبة الصداقة العداوة المحبة او عن ما تناثر من تلك الصرة التي اودعها كل شيء ولا يدري اين.
عواد ناصر!
اين المنفى واين الوطن؟
ايهما المنفى وايهما الوطن؟
لا شيء سوى قلبك.. لا شيء سوى قصيدتك الجسر، الرابط، بين الاثنين..
لا اعرف ان اتمنى للشعراء.. لا اعرف ان اكتب عنهم.. لكنني اردت ان انحني مجرد انحناءة امام قصيدة ترى نفسها جديرة ان تؤنب «ابو جعفر المنصور»! ولحسن حظي هي قصيدة كتبها صديق زاد عمر صداقتي ومحبتي وخلافي معه على الاربعين عاما.
واصل البحث ايها الصديق ..
واصل فقد تعثر على شيء لك او لنا، فنحن ايضا نسي