ادب وفن

علاقتي بكامل شياع / حنون مجيد

غالباً ما تنشأ العلاقات الإنسانية العظيمة من خلال ومضة روحية مشتركة، وغالباً ما تتجلى في نظرة العينين.أو هذا ما قادني الى صداقة كامل شياع ذي العينين النبيلتين.
حدث ذلك مصادفة في مبنى جريدة طريق الشعب حيث كنت أعمل هناك بعد التغيير الذي أطاح بنظام صدام حسين وأدخل الأمريكان. وإن كان ذلك حصل مصادفة فلربما كانت اللحظات التي جمعتنا أول مرة هي أصدق اللحظات في صداقة قدر لها أن تنشأ أو هي في تباشيرها الصادقة والنبيلة معاً، حتى وعدته تحت ضغط هذه اللحظات بان أهديه مجموعتي القصصية "لوحة فنان" التي لم يكن مضى على صدورها أكثر من سنة أو سنتين.
وإن كنت أنسى فلن أنسى تداعي كلماته وتراقص نظراته وهو يتحدث في لقاء تال عن القصة التي حملت عنوان المجموعة وإمكانية الكتابة عنها، الأمر الذي جعلني أكتشف مقدمات غير عادية لثقافة هذا الرجل المكتنز ليس بثقافة واحدة بل بثقافات.
كانت لقاءاتي به تتم في الجريدة ليلاً أنا محرر الصفحة الثقافية فيها وهو العامل بمسؤولية ما في مجلة الثقافة الجديدة...ولأني كنت أقضي معظم أيامي ، نهاراتي ولياليّ، في الجريدة أصبح متاحاً لنا أن نلتقي كثيراً هناك.
كانت غرفة الثقافة الجديدة غرفة أنيقة، يشغلها في النهار صديقنا وزميلنا الودود عبد الامير الحبيب قبل ان يتوفاه الله، وكنت انتقي اللحظات المناسبة لزياراتي الليلية لكامل شياع، فإن تأخرت عليه أو ظن ذلك أرسل من يدعوني إليه، بذا يترك كامل شياع عمله على الحاسوب ليجلس الى جنبي منفتحاً عليّ كما لو كان أخي.
كان يفيض في الحديث معي وغالباً ما كنا نتبادل الرأي في السياسة وفي متون ثقافية خاصة وعامة. وكان حميمياً ودافئاً وسعيداً، حتى وإن تحسه يغالب قلقاً ما.بل أنك كثيراً ما تحسه كمن يمسك بالأشياء المتنافرة بأصابع مرهفة كأصابع الفنان.لم يكن يتوقع أن أصابعه ذي ستسقط أشياءه في لحظة ما لأنها حارة أكثر مما ينبغي.
صارحني بوضعه الشخصي، من ذلك حبه الشديد ولده وشغفه به وبعض رسائله إليه وعلاقاته وحبيباته في دول أوربا وحبه العراق وآماله فيه. وكلما أمعنت النظر في عينيه وجدت فيهما آمالاً لا تحصى في مستقبل العراق المفتوح وإن على وعد بعيد.
حدثته عن ضرورة جمع كتاباته في كتاب فهو بهذا وليس به وحده. ذكر لي انه لا يهوى ذلك.. قال ذلك سريعاً وكأنه لا يرغب الخوض في الموضوع أو لا يريد التوقف عنده.كان مشروعه الثقافي التنويري قد استحوذ على لبه فانصرف له انصرافاً صوفياً انساه المتعلقات الحياتية الأخرى حتى لو كانت تتعلق بحياته هو نفسه.
اكتسب كامل شياع بشخصيته الفريدة ،المسالمة والودود والمثقفة حب عدد هائل من الناس من أماكن متعددة ومن مشارب مختلفة. لم يتوقف عند هوية أو لغة أو طائفة أو مذهب ديني أو سياسي، فبفعل عظم شخصيته اكتسح كل هذا وأبقى الخالص النظيف ليتعلق به ويتحاور معه.
عرفت عدداً كبيراً من شخصيات عرفتْه تواً فأحبته واحترمته، ولم أعرف شخصاً لم يحمل له المحبة والود.
يؤمن كامل شياع بالنقطة البيضاء في كل قلب، وان لها مفعولها حتى لو غمرتها الصفحات السود، لذلك أشرع جسده لهذه النقطة الصغيرة التي قد تكون نائية ، غير مبال بما قد يكتنفها من سواد، بل أنه كان يشعر بأنه قادر على استدعائها من مكمنها متى أراد أو متى اقتضى الأمر. لم يشرع كامل شياع جسده للموت، فجسد جميل مثل جسده ونفس غنية مثل نفسه لا يستحقان مثل هذا المصير المبكر للفناء.ولو كان يفكر بغير ذلك لاحتمى برجال يفتدونه في الواجب وفي الحب.
لم يشأ كامل شياع أن يعترف بأن في قلب أحد ما، ولو من بين ملايين الناس، فراغاً اسود لا تكمن فيه نقطة بيضاء، وأن هذا القلب المفرغ هو القلب الوحيد القادر على البطش والاغتيال. ربما كان هذا شأنه وحده بين كثير من الرجال.
كثير هو الرصاص الظالم وكثير جداً عذاب القتلة ، فالدم البريء يصرخ في أعالي السماء وأعماق الأرض.... وهنا في جوف قاتل كامل شياع وفي رأسه يصرخ دم كامل شياع، ولن يكف حتى يصرعه إن لم يكن صرعه.