ادب وفن

اللـه.. يا هل الوطن / جاسم عاصي

من أحدى زوايا رحم الحياة؛ كان نظرنا يراقب الشاعر المناضل في حيويته الثورية ، فما اكتسبنا منه سوى البحث عن المعارف التي صاغت شخصيته وطوّرتها بهذا الشكل الذي كان لنا مثلا ً نقتدي به ونتذكره ، لاسيّما مواقفه المبدئية التي لم تحد عن طريقها ؛ صَعُبت الحياة أو لانت . فهو العنوان واللوّحة التي يمكن وضعهما على غلاف كتاب الحياة ، ونشيد يمكن ترديده في المناسبات .
يمكننا أن نتباهى بمصادر نشأتنا ، وهو حق لنا نحن جيل الثورة ، الذين لا يتقدمون بفعلهم الحسي الآن سوى من أجل عكس الوفاء للأسبقين ، ليقولوا للملأ .. نحن لم نترعرع سوى في حاضنة كبيرة ونقية حرصت على أن تنشئنا على الطريق الصحيح ، لا بالقسر ، وإنما بالمثـَل من الفعل والسلوك الحقيقي . لا يد طويلة تمتد إلى المال العام ، ولا نوايا سيئة نضمرها للوطن والشعب . نحن لا نمد أيدينا إلا نحو مصادر المعرفة والثقافة ، ننتشل الكتاب الذي نريد من أعلى الرفوف . ليكبر من محتواه عقلنا قبل كروشنا .كنت صغيرا ً بجسدي ، لكنني كبير بعقلي ، فلا أشتري صحفي إلا من مكتبة الوعي الوطني في الناصرية، وأصحابها لا يعرفونني . ربما حسبوني ملبياً لطلب أبي أو أحد غيره . ولكني كنت مطمئنا ً لأنني ألبي نداء نفسي التواقة للمعرفة والمشاركة، لذا تجدني في مقدمة التظاهرات وهي تطوف شوارع المدينة وخاصة شارع الحبوبي "شارع الهوى"، تحت رايات ولافتات مرفوعة بوجه الفضاءات الواسعة ، الصفوف المتراصّة والحناجر الهاتفة ، فقد كانت تضج بهم ، والشوارع تمتلئ فخراً بأبنائها البررة ، ونحن نندّس بين صفوف الكبار ونهتف ، ونسعى لأن تكون قاماتنا بموازاة قاماتهم ، اليوم أو بعد غد . كانت هذه بمثابة رعاية غير مباشرة لنا من لدنهم . كان الركض والجري بين صفوفهم يطول ، لأن السير يتواصل على وتيرة مستمرة ، وأنا أتنقل من هنا إلى هناك ، ربما كنت أحاول أن أعرّف نفسي لهم وخاصة "الدجيلي أو كاظم شناوة" بأنني أنا الذي أشتري الصحف من مكتبتكم ، ها أنا أتظاهر معكم ، كانت الصحف لي وليست لسواي ، أشتريها لأقرأها وأتعلم منها . ولحظة تستكين التظاهرات في نهاية المدينة ، وقرب مدرسة الشرقية تبدأ الكرنفالات تتغير ، ويأتي دور الكلمات والخطابات والجميع يُصغي ، وبين لحظة وأخرى يهتف الجميع ويصفق لذكر اسم أو تاريخ . وأنا مبتهج لذلك ، وأحسب نفسي جزءا منه ، أشارك الدجيلي تظاهره ، معتقدا ً أن قامتي بدأت تـُفرع وتتسامق وسط أجواء صحيحة .
كنت أراقب كل ما يًستجد ، ولم يبهرني منظر وقتها، ويملؤني فخراً، سوى ارتفاع قامة زهير خزعل الدجيلي بنظارته المتميّزة ، وهو يُلقي شعرا ً يُلهب به مشاعر الجمهور ، وبإزائه كان رجل ترفع قامته على الأكتاف يعمل في محل لكوي الملابس في وسط المدينة أسمه "فرحان" وهو نفس الرجل الذي أسس "قرية فرحان" في طرف المدينة غير المسكون ، والذي غدا لي مادة روائية تحت عنوان "الداخل والخارج" حاولت أن أأسطر هذه المدينة والرجل ، بما يُتيح لي التعبير عن حقبة زمنية مرّة وقاسية في تاريخ العراق .
وتتوالى السنون، وأعرف بعض الشيء عن الحياة والسياسة، عرفت سعد الدجيلي مباشرة ، وما كانت تـُنسج عليه من قصص وحكايات تعكس شخصيته الدائرة بين الجد والسخرية الناقدة للأوضاع السياسية وعرفت والدتهما وأنا أصغي لما ألفته من شعر بليغ ، ثم عرفت عنها قصصا ً لا تزيد من شخصيتها إلا أرثا ً مشرفا ً لنموذج المرأة العراقية المناضلة ، فهي أم المناضلين بحق . زهير الدجيلي .. عذرا ً فقد تركت ذاكرتي المتواضعة تنهل من بعض تاريخك المشرّف ، فأنا تلميذ صغير في صفك ، لكنني بسعي منك ومني ومن الآخرين كنت الذي أنا عليه الآن في اصطفافي مع النخبة الطيبة من العراقيين الذين لا يهدرون تاريخهم هباء ، تعلمت منك البساطة والعمق والصبر . لا أدري كيف كنت أترجم ذلك بعقلي الصغير . كل الذي أعرفه أنني كنت عبارة عن عجينة صلصال بيد نحات ماهر . قد تكون أنت النحات الأول ، ولكن لست لوحدك فهناك السيد وليد ، فؤاد مكَطوف ، كاظم شناوة ، حسين السيد فليح اليعقوبي ، خالد الأمين ، طعمة مرداس ، خيري ، عبد الله ، سليم ابن داود أخو فهد.. كثر من على شكلتكم في الصفاء والنقاء ، تربينا في مدرستهم وصفوفهم ورضعنا الحكمة الأزلية التي رسخت في أذهاننا أو في مستقر لا نعيه : أن نحافظ على تاريخنا ، ولا نـُبدد صورته النقية لهذا السبب أو ذاك .ماذا يكتب المستذكر عن زهير الدجيلي شاعراً..؟ مناضلاً..؟، وإذا كان هذا أو ذاك ، فمن سبق من؛ النضال أم الشعر ؟ وما أتصوره الآن ، والآن فقط؛ إنهما ولدا معاً في جسد ووجدان إنسان عاش زمناً قصيراً في مدينته ، لكنه طويلاً قياساً إلى زمن الغربة والفناء في أرضها !! الدجيلي .. صورة تراود فتى آخر من المدينة ، ها أنه يسوق وتيرة ذاكرته ، ليس ادّعاء بأنه يعرفه مباشرة ، وجهاً لوجه ، بل كان تأثيره عليه أعمق وأدّل . فتح له الطريق عن بُعد بما كان يحمله من وهج متواصل السطوع. رآه بأم عينيه محمولاً على أكتاف الجماهير، مستنهضا ، بل مشعلاً وجدانهم الوطني بجميل شعره ومواويله ذات النهج الثوري، المحب للوطن والشعب . الدجيلي من عائلة مناضلة، تتداول الثقافة كالخبز اليومي ، قريب من مكتبة "الوعي الوطني" في الناصرية مع صحبه كاظم شناوة وصاحب حمادي، له أخ مناضل ، وكثير الحديث بين المثقفين ، وذو باع في سحر حديثه كأخيه "زهير" وأمهم المناضلة والشاعرة المرهفة . "سعد" لا تُخفى حكايته التي انطبعت في ذاكرة الجميع ، ولكن لم يذكرها أحد يوماً . وها أننا مع التاريخ . في يوم ما ، وحصراً في عاشوراء ، حيث تقام التعازي في كل مكان من مدينة الناصرية. وكان شارع الحبوبي "الهوى سابقاً" يحتوي مجلس عزاء. وفجأة اخترق كلب وسط الجميع ، وأخذ بالتخبط بين الجالسين الذين هبوا من أماكنهم ، فاضطرب المجلس . وقيل ، بل قال أحدهم وهو أب لأبناء مناضلين ... الذي جلب الكلب إلى الموكب هو "سعد الدجيلي" فهب الناس للقصاص منه ، وعادوا خائبين ، بعد أن عرفوا من أمه ؛بأن سعد مودع في دائرة الأمن منذ زمن . الرجل الذي قال ذلك ، وألهب عزائم المعزين ، بأن هبوا عمياناً ؛ هو نفسه قد ابتكر يوماً هتافاً ضد المناضلين من أبناء شعبنا ، كان يُحمل على الأكتاف ، فيهتف "ما كو شيوعية بهلبلد ما ..." فيجيبه المتظاهرون "كو"، وهكذا يتردد في شارع الهوى أو سواه "ما .. كو ؛ ما ... كو"، الذي تحوّل إلى شعار تناسل من حنجرة ذلك الرجل الذي أراد أن يعبّر عن حقد دفين على الشعب ومناضليه "ما... توا...... ما .. توا" وفعلاً خسر الوطن أعز أبنائه في الغربة . فقد ماتوا هناك .فمدينة الناصرية خسرت تباعاً على أرض الغربة "الفنان فائق حسين/ الفنان كاظم ساجت/ الشاعر زهير الدجيلي / الفنان حيدر عبد الحسين ، الفنان حيدر الجاسم / أحمد الجاسم ، محمد الزهيري" والقائمة تطول .
زهير الدجيلي أنموذج تتعلم منه الأجيال ، فهو معلم في صفوف كبيرة هي الشارع والمقهى والمكتبة . ولا أعتقد أن أحداً ينسى في يوم ما قصيدته "الله يا هل الوطن" والتي غناها الفنان سعدون جابر، ولم يُذكر يومها اسم الشاعر لأنه اسم محظور ذكره . غير أن الجميع يعرف من القائل . الشاعر الذي يدرك وجدانياً حب الوطن ، فيخاطبه "ألله يا هل الوطن .. شمسوي بيَ أحاه .. نيرانه من الثلج .. تجوي وأكَول اشاه" هذه بلاغة الشارع الثوري ، خواطر شاعر عاش في الغربة ، وعانى ما عانى من أجل فسحة في أرض الوطن ، ليس للسكن والاستقرار هذه المرة ، بل لامتلاكه بضع أشبار تحتوي جسده ، قبراً تأتيه الطيور والعصافير، كي تردد قصائده الخالدات ترقص وتغني فوق فضائه . لا تقرأ الفاتحة على قبره سوى الطيور التي تغنى بها ، فسحة قرب قبر زميله "مجيد جاسم الخيون" كي يتزاوروا في الليالي المقمرة ، يستذكران شعرهما ، وشعر مجايليهما ..., ألله يا هذا الوطن ، تبخل على أبناءك بتلك المساحة ، وأرضك ممتدة بوراً لا زراعة فيها يعبث بها المارقون ، وذوي الشهوات لجمع المال السحت ، هؤلاء بلا ذاكرة عراقية . أنت الذي ما زلنا نتذكرك مع صحبك "عزيز السيد جاسم ، سعد الدجيلي ، كاظم شناوة ، شاكر شناوة ، حميد غني ، خالد غني ، حسين السيد فليح ، خالد الأمين" وغيرهم . كنت اراك شعلة نار تسير على قدمين ، فعرفت سر ومعنى النضال من أجل حياة الشعب ومستقبله ، تسيرون بين الجمهور ، تقلبون صفحات الشوارع "النيل ، الهوى" حتى تستقروا في شارع "عشرين" وفي مركز فيه "فلكة" كما يسمّيها ، الجميع وأنتم على هياج ، يرفعك أحدهم ، فتظهر قامتك ، ورأسك الوافر الشعر ذي التجعدات، ونظاراتك ذات العدسات السميكة ، ترفع يديك ، وينبري صوتك بأعذب الأشعار وأكثرها قوة في التأثير على الجماهير . لا أدري الآن .. هل كنت تحفظ تلك القصائد وتلقيها ؟ أم كنت ترتجلها ؟ إني أشك على أي القراءة أستقر. غير أني متأكد أن الأجواء تلك تستحضر الشعر لا محالة . فأنت القادر على مثل هذا الديدن من قول الشعر . كيف لا وأنت كصحبك من الشعراء ابتداء من "أبو معيشي والحاج زاير" وصولاً إلى "زامل سعيد فتاح وكاظم الركابي" كنت وما زلت في ذاكرة محبيك فتى المدينة المضيء القامة . فإذا نسيك الوطن، فقلوبنا وذاكراتنا مأواك ومثواك الأخير ، فنم مطمئناً ، وإن غفل عنك الشعب يوماً ،فأن أغنية "الله يا هل الوطن.." سوف تُعيد حالة البحث عن قائل هذا الشعر المغنى والوافر الوطنية "الله يا هل الوطن شمسوي بي احاه نيرانه مثل الثلج/ أرجف وأكَول اشاه/ ولـّي يضيّع وطن وين الوطن يلكَاه؟ اللي مضيّع ذهب بسوكَ الذهب يلكَاه ، واللي مضيّع وطن وين الوطن يلكَاه"؟ وعذرا ً أني لم أصفف أبيات القصيدة بشكلها الحقيقي، لكني سأصفف مشاعري بما يُليق بشخصكم .. يا صاحب أول درس تعلمته في السياسة والشعر وبناء الشخصية. بوركت أيها المعلم الأول.