ادب وفن

تمثال العامل في أم البروم : عبد الرضا بتّور .. / مقداد مسعود

مَن ينسى النحّات عبد الرضا بتور؟!
مَن ينسى تمثال العامل في ساحة أم البروم؟!
(*)
يختار الأشجار التي توائم مزاجه الحرفي..يدخل مشغله ُ كمن ينتقل من الهدوء الى الصمت وقد غمرني ذلك الهدوء البليغ وأنا ألمسه بأناملي وسط مايسرده النحت في الخشب..أستوقفتني منحوتة غير منجزة ،فأشرتُ بعيني نحوها تأملني مبتسماً،حتى ظننتني اخترقتُ المحظور، لكنه أنقذني قائلا : ليست الكتابة وحدها عصية ومغناج وغامضة كما تقول أنت يا أبا مسعود ..فالنحت كتابة حسب قولك وأنت أحيانا تراني سارداً وأحيانا تراني شاعراً..الخشب أحيانا ،يعرف كيف يماطل ويغوي الأزميل والمطرقة بكسل لذيذ،، هذه المنحوتة، وأشار بسبّابته نحوها موجودة كخطاطة لكنها عصية على التنفيذ منذ أشهر..ثم بسط كفيه ورفع كتفيه وخفضهما :وهذا يعني : انه لايدري!!
(*)
حين أهديته ُ (تماثيل بصرية ) وهي مجموعة قصائد تناولت ُ فيها تماثيل البصرة ،والقصائد منشورة بسعة صفحة كاملة في (الطريق الثقافي) وهو الملحق الثقافي الشهري لطريق الشعب : ( في ذكرى النحات عبد الرضا بتّور) كان ذلك في 2013، ثم جعلت (تماثيل بصرية ) مسك ختام مجموعتي (مايختصره الكحل يتوسع فيه الزبيب )..السبب الأول للأهداء : هو محبتي لهذا المبدع الذي تسعدني جدا رؤيته كلما صادفته ، في الشارع أو في المكتبة الأهلية أو مقر حزبنا في شارع السعدي ، بعد أن عرفني إليه الصديق المناضل والكادح اسماعيل حسين غلوم ..كان ذلك في خريف 1991 ودار بيننا حديث حول مسيرته النحتية ، واكتشفت من خلال إسماعيل أن للنحات عبد الرضا بتور أهتمامات أخرى ، وحين أخذت أزوره ،وهي زيارات قليلة ومتباعدة جدا ، في بيته خلف المبنى القديم للمحكمة في البصرة القديمة أكتشفت ان لديه أهتمامات نباتية ومعرفة طبية بفائدة كل نبتة موجودة لديه في السنادين الفخارية المرصوصة في الطابق الأرضي من البيت، وصار يحدثني عن الفوائد الصحية لكل نبة ،في بيته أبصرتُ الهدوء يغمر البيت بزهو فراشة ويتماوج صعودا الى الطابق الثاني ، حيث الكائنات الخشبية مبحرة في صمتها العميق ، لكن حين تمتلك صبراً جميلاً ، سوف تغادر سكونها الخشبي وتبث خيوطا خشبية نحيلة إليك وأشعة شفيفة تتضوع منها رائحة أوراق اليوكالبتوس ، أتأمل المنحوتات فأتذكر وجوهاً صادفتها في أم البروم ،وكذلك بمحاذاة قبة عزالدين في البصرة القديمة وفي معظم الوجوه ،ألمح ملامح عبد الرضا بتور، فأخاطبه بود خالص : كل هؤلاء أنت ؟! فيبتسم ويقول :هذه التهمة تلاحق منحوتاتي ..،فأعقّبُ : أنت مثل بعض الروائيين ، يوزعون شخصيتهم بين شخوص رواياتهم ..ومثلك أيضا ذلك الفنان البصري العالمي يطالعنا وجهه في معظم لوحاته الرائعة ..
(*)
...كلما ألتقيه : أراه أعلى منا جميعا نحن المشاة في شوارع المدينة ،فهو دائما على ارتفاع سرج دراجته الهوائية وأحياناً ثمة (شمتة ) تتدلى من الجانب الأيسر لسكّان الدراجة ، الشمتة منتفخة لكن ليس كبالون .في الشمتة : خضار للعائلة وصحيفة المدى اليومية ، أما صحيفة (طريق الشعب ) فكانت تصله من مقر الحزب الشيوعي في البصرة من خلال إشتراكه الشهري ، حين كان (أبو ثامر) مسؤولا عن المشتركين في مقرنا القديم في شارع السعدي ..لاحظتُ ذلك وانا أجالسه أحياناً في المقر..
(*)
السبب الثاني لإهدائي قصائد (تماثيل بصرية ) أن أحدهم أخبرني :ان الفنان عبد الرضا بتور غادرنا قبل إسبوع ، فأوجعني الخبر ، فرجوت ناقل الخبر ، أن يأخذني الى بيت الفقيد ، لتقديم التعازي ومرت الأيام ولم يحقق ناقل الخبر رجائي ، وكل مَن سألته عن خبر موت الفنان بتور : لم يقل : نعم ،كما لم يقل :لا..!! وذات مساء :فإذا بالفنان نفسه وهو على دراجته الهوائية يسد عليّ الطريق في محلة الباشا ،في البصرة القديمة ، ترجل وتعانقنا بشدة وبفرح غامر ..وحين سألته عن موته : قال نعم كانت لدي فاتحة ، وبعدها تصفحتُ (الطريق الثقافي ) فأفرحني إهدائك القصائد لي وأحزنني ألمك عليّ
(*)
حين أكتملت مجموعتي (يدي تنسى كثيراُ) وأصبحت صالحة للنشر ، أتصلت به وأتفقنا على موعد ورأيته ينتظرني قرب أعدادية البصرة للبنات ،دون ان يترجل عن دراجته الهوائية ، قدم على دواسة الدراجة ،والقدم الأخرى على الرصيف ، ثم ترجل وهو يراني أتقدم صوبه ، استقبلني بقهقهته الحلوة الخفيضة ، أخبرني انه سوف يكمل إجابته على الأسئلة التي استلمها مني قبل أسابيع ..قلت له مبتسماً : أطمئن ..أريدك لأمر آخر ...
(*)
في الطابق الثاني من بيته وسط منحوتاته وأدوات انتاجه النحتية ، سلمته : مظروفا كبيرا، فيه مخطوطة ديواني الجديد (يدي تنسى كثيرا)..وصارحته :
أحتاج منك منحوتة مشتقة من قصائدي ...ممكن ؟!
تأملني مبتسما وبهدوء : ممكن ونص ..
(*)
بعد ثلاث أسابيع أتصل بي ..فأنتظرته عند المساء في المكتبة الأهلية ،أثناء حديثي مع مصطفى غازي حفيد فيصل حمود ،مؤسس المكتبة الأهلية ، دخل النحّات عبد الرضا ، يحمل منشفة كبيرة ، فتح المنشفة، وأخرج المنحوتة الجميلة : وخاطبني : تفضل ..
أجبته : يا أبا رشاد ، هل كانت المنحوتة تسبح في الحمّام ؟
فأجابني ضاحكا : لا ..بس غسلت شعرها..
غادرنا المكتبة : بتّور وانا والمنحوتة وقصدنا اقرب ستوديو للمكتبة ، طلب بتور من المصور
أن يلتقط اكثرمن الصورة للمنحوتة ، حتى يطمئن قلبه ، وكانت تلك رغبته فنفذتها إعتزاز به ، فهو لايحّبذ لقطات الموبايل ..
(*)
بعد يومين ،أتصل بي ، ليعيد لي المظروف الذي به قصائدي ، حين التقيته ، قال لي قرأت قصائدك كثيرا وعدت الى دواوينك السابقة التي اهديتني اياها ... ثم اشتغلت المنحوتة ، لم أسمع رأيك بالمنحوتة؟
أمسكته من كفيه : أي رأي ..؟ أنت نحت قصائدي فصارت منحوتتك هي الأجمل .
(*)
لما وصلت صورة المنحوتة ، الى الصديق العزيز / دكتور باسم الياسري ،مؤسس دار ضفاف للنشر والتوزيع، أتصل عبر الموبايل وعبّر عن فرحته بالغلاف كالتالي : هاي المنحوتة لذيذة جدا كأنها حلقومة...
(*)
صدر ديواني (يدي تنسى كثيرا ) أتصلتُ بأبي رشاد .. ألتقينا في المكتبة الأهلية تأمل منحوتته ..ثم قال مبتسماً : من خلال غلاف الكتاب صارت المنحوتة : أجمل .فقلبت الكتاب على القفا : أبتسم وهو يرى صورة ظلية للمنحوتة ، وأتسعت الإبتسامة وهو يقرأ : منحوتة الغلاف للفنان عبد الرضا بتّور
(*)
حتى هذه اللحظة ، أنتظر من يكذّب خبر موتك
ومعي تنتظرك
تلك المنحوتة التي لم تكتمل ..