ادب وفن

قاسم عبد الأمير عجام.. يا خسارتنا، أيها النادر! / عبدالكريم العبيدي

هي لحظة بلا زمن، تلك التي هرعت فيها الدكتورة "سلوى زكو" من مكتبها في جريدة "المدى" لتقف قبالتي مثل تمثال شمعي، وجه شاحب وفزع، وأصابع كف نحيفة حفرت على تغضن ذلك الوجه خبر الاغتيال الدموي. كأنها الآن تمثل ذلك "الخلو المريح" بين صفحتين افترقتا عنوة، صفحة أولى وآخر لقاء لي "مع عجام"، وصفحة الدم المراق في "جبله". كان لذلك البابلي الجميل "كتب ومقالات ودراسات" أقراؤها بنهم، ويكبر معي كاتبها الغائب/ الحاضر، كلمة بعد كلمة، وسطرا اثر سطر، وصفحة تلو صفحة، وعدا ذلك، لم أتشرف بإطلالته، ولم أره.
بعد التاسع من نيسان 2003 اختفت، كما نعرف وجوه "قبيحة" كثيرة، وأشرقت أخرى كانت مغيّبة، عزفت ببزوغها فرحة الخلاص من الدكتاتورية. وكان "عجام" أحد أبرز تلك الوجوه العراقية الجميلة. التقيت أبا ربيع في ضحى يوم مبهج، عرّفته بنفسي، فازداد وجهه الباسم فرحا، ثم احتسينا الشاي معا، ورحت أحاوره عن مقالاته: "الخوف والتخلف والموت في خمارة القط الأسود"، و"جناحا النهوض"، ومواصـلة الحديث في العمارة، وثقافة أم ثقافتان، وكتابه "الضوء الكاذب في السينما الأمريكية"، وغيرها كثير.
كان يبتسم لي، ويسعد بحواري، وأذكر أنه ردد بفرح: "هذه هي الوجوه التي طالما افتقدتها، نحن نحتاج إلى هكذا حوارات ومواهب". وظلت تلك الصفحة "العجامية" مشرقة في ذاكرتي، لكنها لم تدم طويلا، ففي يوم الاثنين، السابع عشر من أيار عام 2004، غرق ذلك الوهج في حزن تغضن وجه سلوى، وهمستها الموغلة في الألم، عن مداهمة الظلام للنور، والجهل للعلم، والموت للحياة. تهاويت على أريكة خشبية لوحدي، وصنعت إعادة رتيبة لسيرة العجام، سيرة لحظات متوهجة، فاحت منها الثقافة والأدب والفن والنقد والسينما وحب الوطن، ثم جفت ببطء في يوم الاثنين الدامي.
وزير الثقافة آنذاك مفيد الجزائري شعر – مثلما أخبرني لاحقا – كمن طعن في ظهره. فقبل الجريمة بأسبوع واحد فقط، عيّن "عجام" مديرا عاما لدار الشؤون الثقافية، وكان يعول كثيرا عليه في موقعه الجديد هذا.
بكى اتحاد أدباء بابل في ذلك اليوم إذن، ومعه انتحبت ناحية مشروع المسيب، وكلية الزراعة في جامعة بغداد، ومايكروبولوجي التربة - رسالة ماجستير من كلية الزراعة، بكى التلفزيون والسينما والنقد القصصي و"طريق الشعب"، وأنت حقول قمح ناحية "جبله" وحزنت مذكراتك.
يا لسخرية القدر يا قاسم عجام أن يعلن قاتلك المجرم أنه قبض "نص ورقة" مقابل اغتيالك!، بخمسين دولار أميركي يصوب باتجاه رأسك المفعم بالمواهب والعلم والحب بندقيته الصدئة ويرديك قتيلا. قلت ذات يوم "الآن وإلى مستقبل قريب ستشهد الساحة الثقافية العراقية جدلا ساخنا- إن لم اقل صراعا- قد يدور على البديهيات مثل حرية الفكر واحترام الرأي الآخر وحقه في التعبير. وقد تظهر مراكز تعبر عن ثقافات تخوض ذلك الصراع كدور نشر وصحافة...الخ. مما يدعو إلى احتشاد التيارات الثقافية التي ترفض الواحدية وهيمنتها وتنسيق عملها وحتى توحيد خطابها? عند نقاط الاتفاق المشترك من اجل ترسيخ الأسس التي ستشاد عليها ثقافة التعدد والحوار الحر والتطوير في وطننا. ولنتذكر دائما- إن تبرير مجرد تبرير- أي ميل أو اتجاه لفرض الآراء القطعية وهيمنة سلطة ثقافية واحدة سيقود إلى دكتاتورية اشد مما ذقناه."
روى لي صديقي الشاعر ثامر الحاج أمين، رئيس اتحاد الأدباء والكتاب في الديوانية، حادثة عن عجام الكبير، قال:" كان قاسم يحضّر ويواصل كتابة رسالته الماجستير ويبيت في القسم الداخلي، وذات صباح جلب لنا القيمر والجبن والزبد ووو، فذهلنا من وجبة فطور (ملوكية) غريبة عليه وعلينا جميعا بسبب شح رواتبنا، فسألته منبهرا عن سبب كل هذه الأطباق الشهية، فأجابني بحزن:" البارحة، وفي الساعات المتأخرة من الليل، وبينما كنت منهمكا بالقراءة والكتابة شعرت بجوع قاتل، وظللت أكابده بألم وأواصل كتابتي، ولذلك قررت، في الصباح أن أجلب كل هذه الأطباق التي ترونها ببقية ما أملك من نقود، إنها ردة فعل على حجم ألم الجوع الذي حاصرني البارحة! حيث يقول: "مستعيدا جوانب أخرى من بداياتي الدينية، ومعها استعيد إجاباتي على تساؤلات كثير من الرفاق والأصدقاء، عن تحولي من الديانة الى اليسار السياسي، فأؤكد بفخر ان بداياتي تلك كانت الأساس الصلب والنقي لتطوري الفكري. فقد رضعت في كنف الدين أسس الصدق وحبَ الخير واحترامَ الناس والسماحة والانحياز للحق واتباع المُثل الرائعة أفكارا او شخصيات وهكذا ارتبطت منذ الصغر بنماذج النزاهة والثورة والصدق، التي مثلها عليٌ "عليه السلام" وأولاده وشيعتـُه الأوائل، بوجه الانحراف والظلم. فكان ذلك تمريني الأول على الانحياز لكل ثوار العصر الجديد، وأخلاقيات التقدم الثوري الاجتماعية. لم أجد تناقضا.. بين أساسي الديني وانحيازي اليساري، بل كان تطورا. كانت الأفكار التقدمية قد وجدتني مهيئا بحب الخير ومصلحة الناس، والتطلع الى عالم نظيف لا جور فيه ولا مظالم."
قاسم عبد الامير عجام يا "خسارتنا"، أيها النادر باحتضان السياسة والأدب والفن معا، ستبقى فنارا في ذاكرتنا الجمعية، وقسما بنبل دمك سنواصل رفع لوائك، "بيرغ" عراقيتنا جميعا.