ادب وفن

بيت بلزاك.. وبيت محمد خضير / جمال العتابي

موجة ضياء خافت تغمر المكان ( المنزل) الذي يعود تاريخه الى القرن التاسع عشر ، تعيدك إلى عالم بلزاك ( الروائي الفرنسي ت في آب 1850)الذي يضج بالنداء، بيت يجنبنا همّ الكلمات ، ينسيك ثقل السنوات الصدئة ، خصلات من الأشجار تظلل البيت المتواضع الذي يتصدى للنسمات القادمة من (السين) أشهر أنهار العالم . عناصر أليفة تتجاور فيه ،تستمر في الحوار ، نصغي إليها بكل جوارحنا ، إنصات هادئ حميم، سيجعلنا أقدر على فهم هذا التراث الذي يرتقي فيه الحب والاعتزاز بمنجز الخالدين حد التنغيم اللوني في التشكيل ، قطعة فنية مبسطة تحمل لنفس المتلقي مشاهدة حرارة الحياة التي عاشها الكاتب ، انه لا يزال يطعم أزهاره المحيطة به بحنان ، أليس هو القائل : إذا كان الجمال هو الذي يثير الحب ،فالحنان هو الذي يصونه . كل الأشياء تصبح شواهد قوة ، هذا وفاء للراحلين ما بعده وفاء.
غرف بتضادٍ لوني حاد، تماثيل نحتها فنانون كبار، كتب الروائي ومقتنياته ،هدايا وأوراق وصولجان ، مكتب من طاولة خشبية وكرسي تهفو النفوس ان تجلس عليه لدقيقة واحدة ، صندوق يمنحك بهجة جذلى، مكتبة صغيرة تشعرك بنكهة الكتابة ،عطور تنثال من خفايا الماضي ، وجه بلزاك الممتلئ الصارم، وشعره الكثيف المرسل بتفنن ، يحدق فيك بعينين تلتمعان بزرقة شفافة ، تحييها بسمة مكبوتة ، كل الأشياء تصبح شواهد قوة ، تغرينا للتأمل في محاولات بلزاك السحرية لاقتناص اسرار العالم . تندس حزيناً بين الزائرين، تفضحك أنفاسك التعبى فتتوارى في هذا الصمت ، تعود الى نبع الحنين ، يا لقلبي كلما أغمض جرح ، أيقظ العراق جرحه الآخر ، كل الدروب هنا لا تموت ، إنها بلانهايات ، أعرني أيها الساكن هنا قلمك وأوراقك لأتوسدها ، وحبرك لأشمّه ، هاتني صولجانك لأطل به من نافذتك على تلك السحابات البيض الموشاة بأضواء الصباح ، على متنها أروح إلى أودية الأحلام والسحر. أعرني أيها الطير جناحيك لأرفرف على ضفاف شط العرب ، إذ لا شيء سوى الأنقاض والوحشة .
منذ الخطوة الأولى على عتبة المنزل كان الرثاء الأول لمبدعينا في العراق ، جميعهم ومن دون استثناء، أولئك الذين يجاورونا بالحب والمعايشة الصافية ، لِم نجاف هذا الجار ولا نصافيه ؟ نختصم معه على الرأي الآخر، نقتسم معهم خبز المحبة سنين طويلة ، فهم مشاريع كبيرة للحب والأمل والعطاء ، تباريح فكرية وثقافية ، كتابة وخلقا ونبلاً، ومواقف إنسانية ، لا نحتفي بها إلا بالموت اللئيم ،لنبدأ رحلة الإطراء بعد الرحيل .
صار على الأحياء أن يموتوا حتى يصبحوا أفذاذاً ، وأن يمعنوا في الغياب حتى يتحولوا الى عباقرة تجتمع في دفاتر أيامهم كل مآثر الرجال العظام .،
هي أمنية أن أرى بيت المبدع الكبير محمد خضير متحفاً نعاوده بزهرة حب أو تحية وداد ، أن نناديه من وراء أسوار حديقة منزله :أيها المبدع الكبير لقد أسعدتنا بما أنجزت ، فبيتك تاريخك الشخصي وإرجوحة الهوى ،ومملكتك البيضاء، تسكنه بدرجات حرارة تجاوزت الخمسين مئوي ،تحف بك مياه بصرياثا بقصبها وبرديها ، انه عطر ماض يعج بالعطاء والجهد الصادق ، وهو بيت لا يشيخ على مدارات الفصول ، هو موطن الحكايا وقصص الحب والأحلام .انه وطن من نوع آخر، رمز لوطن في القلب .إرث من المثابرة والمصافحة السمحاء ، افلا يحق لنا ان نشيد رمزاً للمباهج العراقية الإبداعية العميقة .؟ ونوفر الأسباب التي ترعى الحقوق ، وتكفل الحد المناسب لحياة كريمة تحرر المبدع من الأسر الرسمي ، بعيدا عن مزاجيات من لازالوا يعيشون تحت خيام القبائل والطوائف . العشرات بل المئات من بيوت المبدعين إندرست ، وتحولت إلى ركام – لا ضرورة لذكر الأسماء التي نعرفها جميعا- يا للحسرة أن تضيع الهيبة التي تمنح البلدان والشعوب مقامها على قدر احترامها لرموزها، ونسجت من ماضيها وحاضرها فضاء لهواء التحضر والتقدم ، وألفت ما بين فصوله ،هل بإمكان الزمن أن يكون قادرا على إيقاف مواقف التأسيسات المكررة ؟ لينقل المبدع إلى وجود الحياة في ولادة جديدة لا ينالها الزمن بنسيان ، فشاهد المرمر البارد لا يعود برجع مؤثر، ولا يتحول إلى مزار مقروء بالمعاودة الحية .