ادب وفن

"أنا ونامق سبنسر".. شقاء الوطن والغربة / جمال العتّابي

موضوعات الحرب والانكسارات والخيبات والمنافي شكلت مرجعاً اساسياً، ازدهرت به الكتابة الروائية العراقية، ومادتها في هذا المنحى جاذبة لروايات عديدة صدرت بعد عام 2003، تسرد وتتنفس مناخاتها لتصبح جسدها ونبضها بامتياز. ومن ثم لتنسب نفسها حضوراً في الابداع الروائي العراقي. شاكر الانباري في روايته "أنا ونامق سبنسر" تحرك في هذا المحيط، وكتب روايته غير مبتعد عن هذا المناخ الطاغي الذي اتسمت الحياة به.
يلتقط الانباري نماذجه البشرية بدراية وتجربة حقيقية معاشة، وتبرز من بينها الشخصيات المحورية الثلاثة "الرواي، أنا" ونامق، ونادر اختاروا المنفى النائي "كوبنهاكن" بعد سلسلة من عذابات الوطن حينما كانت بغداد تنوراً حقيقياً. محا صور الثلوج والوحدة، وارتضوا العيش في بلد لا يرضى بأنصاف الحلول. فانتظموا في إيقاعه اليومي، يجمع هذه الشخصيات الثلاث تاريخ مشترك امتد الى عقود، بين بغداد وكردستان وطهران ومعسكر الأسر في كوجه مروي، ودمشق، نامق سبنسر نسبة الى شبه في الشكل مع الممثل بود سبنسر، ونادر راديو، الذي لم يفارقه المذياع طوال حياته. مثلما يعود الى رائحة مدينته الجنوبية البعيدة.
أبطال تراجيديون، كاملو السمات، يحملون الماضي بين خفاياهم، بالرغم من أن حاضرهم
"المنفى" يسحق بكل قوة الأواصر التي تشكل العلاقات الإنسانية، يجمعهم حنين الى الماضي لا يجدوه عند الدنماركيين الذين يعيشون الحاضر "الحياة" بعمق، لا يستكينون الى الموت،
الشخصيات الثلاثة تنتمي الى ماضٍ يؤرقهم يعذب أيامهم ولياليهم، إلا ان هذا الماضي أفاد الانباري الى حد مدهش كأحد عوامل نجاح عمله الفني وكمفتاح الى عالم اخر. قدّمها كإشارات ذكية تدلنا على طبيعة الحركة الاجتماعية في الواقع العراقي، وبالرغم من انها اشارات ذاتية في مواضع متعددة من الرواية، الا انها تتحول الى علاقة تفاعل خصب يولد المزيد من الدلالات على عمق المأساة من جهة، وأهمية الصراع بين الموقفين الذاتي والعام من جهة أخرى.
البناء الروائي ينطلق من نقطة ملامسة الانتماء الى الحاضر الجديد. ويبقى الماضي المحور الدرامي للمأساة، ليس الماضي هنا فجيعة العراق فحسب بل هو مدن الحلم التي شيعتها الانكسارات والهزائم والخيبات الى مثواها الأخير. فليست بلدان اوربا جنة الله على الارض. انه مجرد وهم كما يقول نامق، الوهم يتطلب العيش هناك لتكتشف ان الجحيم هو ذاته جحيم الوحشة والغربة واللون والدين والسلوك وكل شيء.
نامق المتزوج من ربيعة الجزائرية ينظر مع الزوجة بأسى الى ابنتهم عشتار المصابة باللوكيميا. يترقبون بمرارة موتها المؤجل. "أنا" يكتشف ان "كاترين" الفاتنة، الشهية. في ربيعها السابع عشر. إنها ابنة نادر، فتاة حائرة بين لغات عدة، أبوها عربي، أمها بولونية، تقطن في بيئة دانماركية. ضائعة بين اللغات، تلك الفوضى حولتها الى فتاة شبه خرساء. ثم يأخذها الاغتراب الى ضياع تام بين حانات الليل والشباب. . ونادر لم يتغير شكلاً ولا فكراً.
"الراوي، المتكلم". لا يستطيع رؤية ابنتيه جميلة ونجمة من زوجته البرازيلية المطلقة "ماري"، يجد نفسه مبهوراً في هذا الوسط الكوزموبوليتي الذي يحيطه، باحثاً عن عمل. لم يرد في أحلامه أو يخطر في ذهنه أنه سيتزوج ماري ويسافر معها الى ساو باولو في البرازيل، وهو العراقي الحائر في حياته الذي لا يعرف اين يجد الأمان..
منذ هرب نامق نحو الجبال تاركاً الوطن وسط أتون الحرب، يتنفس رائحة البارود منذ الصباح حتى المساء. ويرى الجسد البشري وهو يقطع دون رحمة عبر القذائف والصواريخ والسلاح الابيض.
ليست الرمزية في "أنا ونامق سبنسر" من الطراز الاسطوري في شيء، ولا هي تركيز لواقعية الواقع، حتى ليبدو "غير واقعي" في مظهره. وانما تقترب الرواية من ان تكون معادلة حرفية للواقع المباشر. ويكاد حل المعادلة ان يكون بين يدي القارئ من السطور الاولى. فكان اختيار الكاتب موفقا في نقطة الانطلاق الفنية للأحداث كمدخل يمنح الاحداث دلالاتها العامة والخاصة وهي نقطة انطلاق موضوعية تماما. تشير الى جوهر المأساة، فقد تشابكت خيوط المؤامرة، وافرخت هذا الحريق الهائل، فيلم طويل إحدى ضحاياه شقيقه "كمال" الذي ينتهي بتفجير هائل، وهي قصة موت لعشرات الالاف من البشر.
الراوي معجب بوصف نفسه انه شخص محشو بالذكريات. . فمن دونها، يحس كأن حياته تكرر نفسها. لكنه لم يستطع الوصول الى سر قدرة السنين على التغيير فالوطن أشبه بحلم غامض لا يمكن إمساكه، ذلك الحلم تلاشى، وفي رأسه خارطة مختلفة، واقعية وفجة، الدرس الذي تعلمه في حياته هو ان الزمن يقشر الاوهام بقسوة، تقشير متواصل، لا ينتهي الا بدخول القبر. تتشعب المحاور في الرواية لتشكل بانوراما عريضة لجوانب الصراع بين انماط السلوك والقيم والثقافات بين الشرق والغرب، مجموعة من الارتباكات والتناقضات الحادة تعبر عنها الرواية وتقدمها كعوائق، تربك واقع المغتربين وحياتهم، وتحول دون التفكير في العودة المستحيلة إلى الوطن. او الرضوخ لواقع جديد مختلف، إنها الطواحين التي يحرك دواليبها هواء معاكس ومضاد، فتهتز العلاقات، وتلوح اشارات لانهيارات وتداعيات لها في المفاهيم والاخلاق والقيم والجذور. لذا تبدو الرواية مدخلاً لرواية الشقاء، أو مدخلاً لعالم روائي لم يتكسر زمنه، أو يتفكك سياقه السردي، إنما ارتجت رؤية شخوصه وابطاله.
وليس مصادفة أن يكون الأبطال على وزن "فاعل" في الرواية، "نامق ونادر وشاكر" الروائي الحاضر في داخل نصه، إن هذا الاختيار دليل على مكانة "الفاعل" في رسم وتحريك الأحداث، الفاعل في الحياة والشهادة على الاحداث، شهادة على الزمن الذي تبعثر بين محطات كثيرة، وعلى حروب اضاعته، ومعان التبست وصار العبث سيدها.
قيم وافكار ونظريات كونت جيلاً كاملاً، فكانت مفاجأة أن يصاب التكوين بما يشبه السكتة القلبية، إذ أحسن وهو في قمة الانغمار في فصائل المقاومة للدكتاتورية بداية ثمانينات القرن الماضي، ان يقرر الانسحاب مع رفيقه نامق الى الحدود الايرانية، انه الفراغ الوحشي الذي التهم الاثنين بلا تردد، انها المأساة التي تفجر في وعينا الحقيقة.
يقبل "أنا" فكرة العودة الى أرض العنف والدماء ثانية. لتعمّق شعوره بالغربة يقول : هذه ليست مدينتي، لم أعش طفولتي فيها. لا أعرف أصدقاء المدرسة فيها، هذه مدينة تعتقد أني مختلف، ولا أنتمي اليها.
العودة الى الوطن يوفرها مراد قامشلي "الذئب الذي غير مسار حياتي".. مراد ابن مدينة القامشلي السورية، يدير جريدة الخبر الاسبوعية التي تصدر في المنفى. يعرض على "أنا" العمل كمراسل للجريدة في بغداد، ليبدأ بتوثيق ملف "أرشيف العنف" منذ كلكامش حتى الان.
هناك يوفر له صديقه سامر مكتباً يتحول الى مكان يلتقي فيه بالصحفية سرى عشيقة سامر المتزوجة من مفيد، انجذب اليها "أنا" منذ لحظة اللقاء الاول ليصفها أنها بيضاء البشرة، بشعر يميل الى الشقرة، وجسد أنثوي ناعم، بروح طفولية. هذا الاعجاب يتحول الى عشق ولذة واندماج، وتوحد في جسد سرى التي أحبها بجنون لم يألفه سابقاً، أن سرى كانت المرأة الوحيدة التي وجد فيها "أنا" نفسه، وازداد قناعة بأنها المرأة التي أحبها قبل اكتشاف كيميائية جسدها، فلم يقاوم فتنة وجهها الشبيه بوجه الاميرة ديانا ولا اغراءات شفتيها الرقيقتين. إلا ان العلاقة ارتطمت بسحائب داكنة كدرت حياة الراوي ودفعت به الى التشرد من جديد، بعد ان اكتشف صديقه سامر طبيعة العلاقة مع سرى. فاكتفى بطرده من المكتب، وخلف ذهابها فراغا هائلاً في روحه. . جعله يعيش في وحدة فريدة.
في هذه الفصول التي شهدت توثيق ارشيف العنف في بغداد، يتبدل الصوت الحزين، وتتراجع اللغة النادبة، وتترك مكانها للغة تأوهات مشبعة بعطش الجسد وتمتزج بممارسات حب مع سرى المحرومة من الحب الحقيقي، تتراجع النبرة العالية امام مشاعر الحب. ويذهب الروائي في سرد هذه المشاعر بفصول كثيرة أخذت حيزاً غير قليل من الرواية.. بمعنى أخر أن سرى كانت احدى الشخصيات المحورية الاساسية في الرواية، مثلما كان نادر كذلك.. فيتبادر السؤال بالعودة الى عتبة العنوان عن معنى اختصاره بشخصيتي الراوي ونامق فقط.. وربما اجاب الراوي عن هذا التساؤل حين يصف موت صديقه نامق حزناً على عشتار، بالقول: موت صديقي نامق لم يكن حدثاً عابراً. أحسست وكأنني أقتطع ثلاثين سنة من حياتي وأرسلها الى القبر ذكرياتي جلّها تصب في اسمه، والقصص التي عشتها والمدن التي رأيتها كلها على علاقة بذلك الرجل الذي مات.
ان نهاية حياة نامق الى مصير تراجيدي حاد، توفر العناء في البحث عن اجابة لمعنى العنوان. لغة شاكر الانباري بلا غموض أو التباس. أو تنظيرات.. لكنها لغة تبتعد عن المباشرة والخطابية والوعظ، وإن كنت أتطلع الى خاتمة للرواية في فصلها التاسع عشر وتنتهي فيه، لتبدأ الرواية تنمو بقوة في دواخلنا وتتجدد، معالم المكان ومعانيه تجد امتداداً له في الكتابة، بلغة حافلة بمفردات اليوم، وبتدفق حي، تتعدد مستوياتها، كأنها تعبير عن قلق روح راويها وهو يتلمس "أناه" في عالم تنتهي الانا فيه.
وإذ يعاني النص من مسألة الرثاءات، والانكفاء الى تفاصيل العيش يبدو معها الموت احتفاءً.
هذه النزعة سائدة في النص كتعبير عن شعور بالتمزق واليأس. وبلا جدوى القول في وقف الانهيار ونزيف الدم المراق بلا معنى ورحمة. إنه انهيار الرؤية وتهاوي الجيل الاخير الذي فوجئ بالتاريخ يصعقه وهو في منتصف العمر، ومنتصف الطريق.