ادب وفن

يوسف العاني .." موليير العراق" / عبدالله حبه – موسكو

لا اذكر جيداً من أطلق على فناننا الكبير يوسف اسماعيل العاني المحامي ( 1927) هذه الصفة. ربما سمعت ذلك من د.صلاح خالص الذي كان يتردد على مطبعة الأمة في الحيدرخانة حيث كانت إدارة مجلة "السينما" لمساعدتنا في إصدارها بعد ان تحولت الى مجلة"الفنون". وربما كان الشاعر حسين مردان هو من أطلق هذه التسمية عليه عندما كان يتردد على إدارة صحيفة" البلاد" حيث عملت فيها في صفحة النقد السينمائي. لكن هذه التسمية " موليير العراق" تنطبق على يوسف العاني لحد كبير اذا ما راجعنا سيرة حياته المترعة بالعطاء، والذي جعلته بإبداعه كمؤلف مسرحي وممثل وكاتب إعلامي عن حق ملكاً للشعب العراقي وثروته الغالية الواجب صيانتها وتناقلها من جيل الى آخر. وقد استحق " ابو يعگوب "، أو " أبو اليعاقبة" كما كان يدعوه الفنان سامي عبدالحميد مازحاً ، بجدارة لقب " فنان الشعب" مثل موليير. والطريف في الأمر ان جان باتيست بوكلان الذي اخذ الاسم المستعار" موليير"- كما يقال من احد الكتاب المغمورين في زمانه- قد درس أيضا المحاماة بإلحاح من ابيه. وسافر جان باتيست بوكلان إلى ليون لهذا الغرض بعد التخرج من كلية كليرمون حيث درس مع ابناء الذوات والامراء، وتعلم هناك اصول الفلسفة والتأريخ والرياضيات واللغتين اليونانية واللاتينية لدى افضل الاساتذة في زمانه. لكنه بعد عودته الى باريس في عام 1642 رفض جان ممارسة مهنة المحامي والانضمام إلى غرفة المحامين. الأمر الذي أثار غضب والده الذي طلب من قسيس الحي إقناع موليير بالعدول عن رأيه. بيد ان المقابلة بينهما على مدى ساعتين اسفرت عن خلع القس رداءه والتوجه مع موليير الى الفرقة المسرحية التي انضم اليها الفنان الفرنسي الفذ.
وعندما قرر يوسف العاني ترك مهنة المحاماة والارتباط بالمسرح مدى الحياة، نجده في اصراره هذا يشبه موليير. وأنا لا اريد القول أن يوسف سيحتل في تأريخ المسرح العالمي المنزلة ذاتها التي شغلها موليير فيه. فهما ينتميان الى حضارتين مختلفتين وعصرين متباينين. لكن موليير كان في صراع دائم مع السلطة. فقد منعت الرقابة عرض مسرحيته الانتقادية " طرطوف" على مدى اعوام طويلة لمجرد ان بطلها المنافق قسيس. وكان هدف موليير نقد ظاهرة النفاق في المجتمع فحسب . ولم ينقذه من ملاحقات السلطات سوى الملك لويس الرابع عشر المحب للمسرح والباليه بوجه خاص. وكان موليير يضمن عروضه خصيصاً مشاهد باليه لإرضائه. وكذلك يوسف العاني كان وما زال في صراع مع السلطات على اختلاف انواعها، مع تباين أشكال هذا الصراع ، في سبيل بناء المسرح العراقي الاصيل. إن مسرحنا- والمسرح العربي بوجه عام- لم يصل الى مستوى العالمية بعد، شأنه في ذلك شأن ثقافتنا المعاصرة التي لا زالت تتعثر في مسيرتها وتطورها بحكم الظروف الموضوعية التي تسود في مجتمعنا. فالانظمة الشمولية تقف دوماً حجر عثرة في طريق نهوض الثقافة والعلوم في جميع البلدان العربية تقريبا.
ولهذا وجد يوسف العاني دوما الملاحقة ودخل السجن اكثر من مرة. وطرد من معهد الفنون الجميلة لتقديمه مسرحية تتضمن نقداً للنفاق والتسلط والزيف وغيره من المظاهر السلبية للمجتمع. وقال يوسف في حديث مع صحيفة " لسان الحال" اللبنانية بتأريخ 29 تموز 1964 "اننا حين بدأنا نفتح صفحة جديدة من تأريخ المسرح العراقي بدأنا بالناس، الناس البسطاء ، حياتهم، واقعهم ، أمانيهم. كنا نغوص في أعماق حياتهم فنقدم بمستوى فني رصين هذا النتاج، مشاركين معه في محاولات اخرى .. منتقين مادتها من المسرح العالمي ..فكان المشاهدون يأتون إلينا ليشاهدوا -المسرحية الشعبية- فيجدون معها مسرحية أخرى ، كانت رغم عالمها الغريب، قريبه اليهم والى مشاعرهم، ومشاكلهم ذاتها.. وهكذا وجدنا الناس يأتون الى المسرح. واصبح لمسرحنا جمهور ينتظر حفلات الافتتاح ليتزاحم في باب القاعة ويحجز التذاكر للأيام المقبلة...".
لقد اختار يوسف العاني منذ البداية وحين كان طالبا في كلية الحقوق تقديم "المشاهد المسرحية الهزلية" مع جماعة " جبر الخواطر" باللغة العامية العراقية المفهومة للمشاهد العادي، وتتضمن مفارقات مضحكة بهدف التسلية لا غير. ولكن العنصر الكوميدي في العمل الإبداعي عموما سواء في الادب والفن التشكيلي وغيره ام في المسرح لا بد ان يقترن بنقد الظواهر الاجتماعية السلبية. وكما قال الفيلسوف بيرغسون فالضحك في الاساس يرتبط بالنقد وبالسخرية من حالة ما. وهذا بالذات ما كان يثير غضب السلطة. فالحاكم بأمره في كل مكان يريد تغطية مساوئ المجتمع الذي يحكمه. ومن جانب آخر فإن المشاهد العادي يأتي الى المسرح للتسلية قبل كل شئ، ويريد ان يضحك لما يراه على الخشبة. ومن المعلوم أن موليير فشل فشلاً ذريعاً لدى تقديمه المسرحيات التراجيدية. ولم ينقذ مسرحه من الافلاس المستمر ومعاناة ممثليه شظف العيش والتجوال في عربات في الأقاليم حيث يقيم الموظفون شتى العراقيل أمام الفرق المتجولة سوى تقديمه الكوميديات وبطلها سغاناريل بلغة مفهومة لدى المشاهد وكذلك بمشاركة ممثلات حسناوات مثل مادلين بيجار، وبهذا تغلب على منافسة الممثلين الايطاليين في البلاط الفرنسي ومسارح الميدان الملكي في باريس. وهكذا برز يوسف العاني بعد تقديم "رأس الشليلة" و" وماكو شغل" و" تؤمر بيك" و" الحشاشة" و" طبيب يداوي الناس" وغيرها من المسرحيات الهزلية وليس المسرحيات التراجيدية. وقد اعتاد الجمهور على رؤية العاني في مسرحيات هزلية، واحتاج الفنان الى فترة لكي يزيل صورة الممثل الهزلي حصراً التي لازمته في الاعوام الاولى من نشاطه الفني.
وتعرض العاني منذ البداية الى المضايقات واينما ذهب وجد العراقيل من منع العروض في مسرح الاعظمية الصيفي " الطيني" في نادي جمعية " النداء الاجتماعي" وتهديمه إلى سد الابواب أمامه حتى في الكليات والمدارس . وسُحبت إجازة فرقة المسرح الحديث التي أسسها مع رفاق له لأول مرة لدى تقديم عرض في نادي السكك الحديدية يوم 6 آب 1953. وتكرر سحب الاجازات عدة مرات لاحقاً . حقاً ان العاني لجأ إلى المشاركة في مسرحيات موليير مثل "طبيب رغما عنه" و" البخيل " و"المثري النبيل" بدلا من مسرحياته نفسه. كما قدم بعض المسرحيات بإسماء اخرى مثل مسرحية " ستة دراهم" بإسم ابراهيم جلال و" ايراد ومصرف" بإسم محمد يونس، لأن الرقابة كانت تخشى من مجرد ذكر إسم يوسف العاني.
لقد وجد موليير الدعم من قبل الامير كونتي ومن ثم الملك لويس الرابع عشر الذي جعله مديرا لمسرح البلاط " باليه رويال"، بينما لم يجد يوسف العاني الدعم من قبل اي حاكم للعراق في العهد الملكي. فلم يهتم الوصي الامير عبدالاله ولا الملك فيصل الثاني نفسه بشئ اسمه المسرح. ونادراً ما كان أحد المسئولين الكبار يحضر العروض المسرحية باستثناء وزير المعارف الذي كان يأتي اليها بحكم منصبه حيث كانت عروض معهد الفنون الجميلة تقام تحت رعايته. وحدث بعد عرض احدى مسرحياته أمام الوزير أن غضب عليه وأمر بفصله من المعهد. وبهذا لم يكمل العاني دراسته في قسم التمثيل وما كان بحاجة اليها في الواقع. ووجد الدعم الحكومي فقط في فترة قصيرة بعد ثورة 14 تموز، لكنه عانى الكثير من المحن والارزاء في الفترة العارفية ومن ثم الصدامية، وبعد الاحتلال الامريكي شأنه شأن بقية ابناء الشعب العراقي، بالرغم من محاولاته لايجاد صيغة ما تتيح له مواصلة العمل المسرحي الذي لا يجد معنى لحياته بدونه.
لقد كان العاني يواظب على تطوير ثقافته الذاتية وقدراته بجهوده الشخصية. وساعده في ذلك العمل مع حقي الشبلي وابراهيم جلال وجاسم العبودي وغيرهم من الجيل الذي أرسى أسس المسرح العراقي. وقال عن جاسم العبودي"لقد كان بجدارة مربياً مسرحياً واستاذاً مثقفاً ومخرجاً قديراً يحمل " خصوصيته" التي مازالت عبر كل السنوات التي مرت فيه وحتى لا تجد نظيراً لها عند أي مخرج مسرحي آخر"..."انني ما حضرت مسرحية لجاسم العبودي الا واحسست بأنني أمام مسرح يحترم نفسه في كل شئ".
ويقول العاني انه صعد خشبة المسرح المدرسي لأول مرة في 24 شباط عام 1944. ومثل يومذاك دور "يوسف الطحان"، وتوسل الى معلمه لإعطائه الدور لسبب واحد أن اسمه يوسف ايضا! ولا يعرف سبب شغفه بالمسرح منذ الطفولة الذي جعله يترك فيما بعد مهنة المحاماة التي ربما كانت ستدر عليه دخلا طيبا، ليمضي في درب الفن الملئ بالاشواك في بلادنا، بالرغم من انه لم تسنح له الفرصة للحصول على الدراسة الاكاديمية الكاملة مثل رفاقه المسرحيين الآخرين. وقال عن هوايته انه بدأ بتقليد النساء في بيت أخيه، والمعملين في المدرسة. وعندما وجد تجاوبا من مشاهديه واصل تطوير قدراته بقواه الذاتية. انه فنان عصامي بلاريب، ولا يوجد فنان آخر قدم الى المسرح العراقي مساهمات كتلك التي قدمها العاني. فبالاضافة الى مسرحياته نحن لا نجد أي فنان آخر كتب المقالات ونشر ذلك القدر من الكتب التي ضمنها ذكرياته عن الفنانين العراقيين واتي تعتبر مرجعاً هاماً لكل دارسي تأريخ المسرح العراقي. قد يقول البعض ان أعماله المكتوبة تحتوي على وجهة نظر ذاتية. ولكن اي كاتب انما ينطلق من رؤية ذاتية الى الاحداث التي شهدها في حياته. لقد كتب يوسف العاني عن عبدالله العزاوي ومحمد القيسي وحقي الشبلي وابراهيم جلال وبهنام ميخائيل وجعفر علي وقاسم محمد ويحيى فائق وجاسم العبودي وزينب وخالد الجادر ومحمود صبري وصلاح خالص وعشرات الفنانين والمثقفين العراقيين الآخرين من اصدقائه ومعارفه الذين برزوا في "العصر الفضي" للثقافة العراقية في فترة الخمسينيات – السبعينيات.
وقد حالفني الحظ بلقاء العاني أول مرة لدى تقديم عرض مسرحياتيه"تؤمر بيك" و" ماكو شغل" على خشبة مسرح الشعب في باب المعظم في عام 1955. ولم أكن آنذاك اهتم بالمسرح سوى من الجانب التشكيلي، اي تصميم الديكورات بحكم هوايتي الفنية. وقد أخرج العرض جاسم العبودي في أول عمل له بعد قدومه من الولايات المتحدة حيث درس في معهد كودمان المسرحي بشيكاغو. وكانت فرقة المسرح الحديث التي تأسست في عام 1952 بجهود العاني نفسه وابراهيم جلال وسامي عبدالحميد وآخرين قد مرت بعدة مراحل في تشكيلها. فقد كانت في البداية فرقة من هواة المسرح. وكان ضعف العامل المادي وموقف السلطات من مسرحيات يوسف العاني وعدم وجود قاعة دائمة لاجراء التمارين من العوائق الرئيسية التي حالت دون مواصلة الفرقة العمل بإنتظام. واذكر في الفترة التي التحقت بها في الفرقة لاحقاً ان يوسف كان غالبا ما يذهب الى ناجي الساعاتي ، صاحب محلات لبيع الساعات في الباب الشرقي وأحد المثقفين المحبين للفن، ويأخذ منه سلفة مائة دينار لاستئجار قاعة الشعب تعاد اليه بعد بيع التذاكر. ولم يفكر احد من اعضاء الفرقة بنيل أية مكافأة عن جهده. بل كان الامر بالعكس فكان الموظفون مثل ابراهيم جلال وسامي عبدالحميد وعبد الواحد طه وعبدالرحمن بهجت ومجيد العزاوي وسعدي محمد صالح وغيرهم يقدمون جزءاً من رواتبهم لتسيير أمور الفرقة. ولم يفكر أحد في تلقي المعونة من الدولة التي لا تقدم اي دعم للفرق المسرحية من الهواة وللحركة الفنية في البلاد بكافة فروعها. ويقتصر الامر على تلبية حاجات معهد الفنون الجميلة. ولابد من القول ان العاملين في الفرق الموجودة في النصف الثاني من الخمسينيات كانوا يقومون بعمل" بطولي" بكل معني الكلمة في مواصلة تقديم العروض واستغلال اية فرصة لذلك سواء بتقديمها في الكليات والمعاهد والمدارس او المنظمات الاجتماعية. وقد اتفق ابراهيم جلال مرة مع نادي الشرطة لتقديم عروض بإسمه يوجه ريعها الى عوائل الشهداء من الشرطة. وكانت الغاية من ذلك التخفيف من الضغوط من قبل وزارة الداخلية على نشاط الفرقة. وكان الوضع آنذاك يتطلب المناورة مع السلطة والرقابة ولو ان الحظ لا يحالفهم دائما . فمثلا عمل جعفر السعدي مع اعضاء الفرقة الشعبية عدة شهور في التدريب على مسرحية " المفتش العام " لجوجول على مسرح ثانوية الاعظمية، واعدت الازياء اللازمة وبدأ بناء الديكورات وفي النهاية منعت الرقابة تقديم المسرحية بذريعة ان المؤلف نقولاي جوجول " شيوعي"!!. ويبدو ان الرقيب لم يعرف بان هذا الكاتب الروسي عاش قبل صدور "البيان الشيوعي" بعدة عقود من السنين. وكان سيف ديموقليس مسلطا فوق اية فرقة مسرحية تشم منها رائحة نقد السلطة وذلك بسحب اجازتها. وقد سحبت اجازة فرقة المسرح الحديث مراراً، وحتى اضطرت لتغيير اسمها في احدى المرات. بينما نفي جاسم العبودي رئيس فرقة المسرح الحر في عام 1956 الى قرية نائية بسبب توقيعه على احتجاج للمثقفين العراقيين ضد العدوان الثلاثي على مصر. أما يوسف العاني وعدد كبير من المثقفين فقد اقتيدوا الى الخدمة الاجبارية في معسكر السعدية تحت رقابة صارمة بسبب مواقفهم الوطنية. حقاً ان يوسف انتهز الفرصة لتشكيل فرقة مسرحية في المعسكر- المعتقل قدمت العروض امام الجنود والضباط والمبعدين ونالت اعجابهم.
وبعد انقلاب شباط عام 1963 اقتاد الحرس القومي يوسف العاني إلى قصر النهاية ولقي التعذيب والاذلال مثل الآف العراقيين. وبعد إطلاق سراحه عقب عدة أشهر غادر البلاد الى بيروت وتجول في عدة عواصم أخرى. وكتب يوسف من هناك الى موسكو وقد استلمت منه عدة رسائل ونص مسرحية ما زلت احتفظ بها حتى الآن وهي بخط يده وعنوانها " بعد فوات الاوان". كما كان الفنان الراحل قاسم محمد الذي واصل الدراسة معي في معهد " غيتيس" المسرحي يبلغني بما يكتبه يوسف إليه. وكان العاني كعادته شعلة من النشاط في الكتابة ولقاء المسرحيين العرب الذين اقام معهم علاقات طيبة خلال وجوده خارج العراق . لكنه سرعان ما عاد الى العراق بعد تغير الظروف للعمل في كافة المجالات – الاذاعة والتلفزيون والصحافة وطبعا المسرح. فهذا الفنان لا يمكن ان يبدع بعيداً عن التربة التي نشأ فيها. ربما يوجد فنانون آخرون قد يتكيفون للظروف ويعملون في بلدان أخرى، لكن هدف العاني كان منذ البداية تأسيس مسرح عراقي أصيل وباللهجة العراقية وبالمواضيع العراقية ، ومثله مثل العديد من الفنانين الاخرين الذين مكثوا في البلاد ومنهم سامي عبدالحميد وابراهيم جلال وجعفر السعدي وعبدالواحد طه وصلاح القصب وغيرهم. إنهم صبروا على أذى السلطات الفاشية وصمدوا امام الاذلال وسلب الهوية من اجل خدمة هدف واحد هو مواصلة العمل في المسرح مهما كانت المشقات والالام. ولا يسع المرء سوى الانحناء احتراماً لصمودهم، وتفهم بعض مواقفهم التي يعتبرها البعض دليل الضعف والتنازل امام القوة الغاشمة.
في الواقع لم يلق يوسف العاني طوال حياته الفنية الدعم الفعلي من قبل السلطات، الا بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 حين وجدت فرقة المسرح الحديث الحرية في العمل ، فيما بعد تولى العاني مهمة تأسيس مصلحة السينما والمسرح في عام 1960. وكان قبل هذا قد إلتقى عبدالكريم قاسم ثم كرر اللقاءات معه بعد الثورة ووجد التفهم لطروحاته حول مستقبل المسرح والسينما في العراق. كما أعجب العاني بتواضع وبساطة وزهد هذا الرجل الذي اراد اقامة نظم حكم ديمقراطي ومتحضر في العراق.
ولعل أهم حدث مسرحي قدم في بغداد في عام 1958 هو تقديم مسرحية العاني "آني امك ياشاكر" بأخراج ابراهيم جلال على مسرح قاعة الشعب في 16 كانون الاول 1958 وتكرر العرض 18 يوماً، ومن ثم نقلت العروض الى البصرة مع عرض مسرحية "المقاتلون" للكاتب العراقي جيان. وقد استوحيت فكرة المسرحية من رواية "الأم" لمكسيم غوركي ، تلك الرواية التي كنا نقرأها مكتوبة باليد في دفاتر لأنها منعت في العهد الملكي. ويعتقد ان العاني قصد بها تخليد بطولة المرأة العراقية التي فقدت ابنها الوحيد الذي اغتاله رجال الامن، وخرجت امه في مظاهرة احتجاجية نسائية. وقد شارك في العرض خيرة ممثلي الفرقة وهم زينب وناهدة الرماح وازادوهي صاموئيل وسامي عبدالحميد وعبدالواحد طه وعبدالجبار عباس. وتوليت أنا ادارة المسرح. وكانت القاعة تغص بالجمهور في كل مساء وسط حماس شديد وتصفيق المشاهدين في نهاية العرض حين تقول ام شاكر:" هسه نروح على كل الامهات.. تدرين شنگوللهم... انگوللهم.. سعودي السبع ما تنطفي ناره ..يالله ياشعب دناخذ بثاره". وقد دعوت لمشاهدة العرض صديقي المخرج الانكليزي رسل باودن رئيس فرقة “Tigris Players” التابعة للمجلس الثقافي البريطاني في بغداد، الذي اورد انطباعاته عنه بعد نزول الستار بقوله: "colossal ".
لقد كتب الكثير عن يوسف العاني كمؤلف. ولا ريب في ان أعماله الاولى (السكيتشات الهزلية) التي كانت تعرض في حفلات التعارف والسمر الطلابية هي غير المسرحيات التي كتبت في المراحل التالية لنضوج المؤلف مع تطور الحركة الثقافية العراقية. فيجب الاّ ننسى ان العاني يتمتع بذكاء مرهف، ويحب المطالعة ويصبو الى المعرفة اينما كانت. ونشأ يوسف العاني كمؤلف مسرحي وممثل في زمن فريد حين كان المثقفون في بغداد يلتقون في المقهى البرازيلي او مقهي السويسري ... فتجد عبدالملك نوري جالساً هناك بعد الخروج من الوظيفة ليطالع تشيخوف باللغة الانكليزية او فؤاد التكرلي غارقا في حوار مع اصدقاء له حول روايات البير كامو. بينما يجلس شاكر حسن أل سعيد في قهوة العجمي مع فنانين آخرين ليتحدث عن علاقة الفن بالتراث. أما جواد سليم فكان يرسم لوحة جامع الحيدرخانة لابساً فانلة البحارة وعلى رأسه خوذة خاكي وبالشورت. ولم يعكر عمله سوى اعتراض أحد الشرطة على ذلك الذي اقتاد الفنان إلى مركز الشرطة مع لوحته والمسند والاصباغ والفرشاة للتحقيق في "جريمة" رسم لوحة في شارع الرشيد بدون رخصة. أما بدر شاكر السياب فكان يأتي الى مقهي العجمي حاملا كيساً من الخيش فيه ديوانه " المومس العمياء" لبيعها على الجالسين هناك. ويُشاهد فائق حسن دوماً راكباً دراجته متوجها الى معهد الفنون الجميلة. انها بغداد الخمسينيات حين كان المثقفون يقرأون بتلهف جريدة "الرأي العام" التي تنشر افتتاحياتها بقلم الجواهري الكبير او جريدة "الاهالي" التي تدعو إلى الديمقراطية والانتخابات الحرة.. ومجلة " الثقافة الجديدة" التي كانت تصدر بإسم عبدالرحيم شريف المحامي والدكتور صلاح خالص.. كما كانوا يتلهفون على كتب ابراهيم كبه في الاقتصاد السياسي... ومشاهدة معارض جماعة الرواد او جماعة بغداد للفن الحديث. وكان جميع المثقفين العراقيين تقريباً يميلون الى الحركة اليسارية وطليعتها الحزب الشيوعي العراقي.
وكان لا بد ان يتأثر يوسف العاني بجميع تلك الاجواء ويتفاعل مع الاحداث فيها. وكتب في مقدمة الجزء الاول من "مسرحياتي" يقول "احببت التمثيل والمسرح بوله وشغف بالغين وانا طفل ..وتعلقت به وانا شاب يافع .. كنت أؤثره على اشياء كثيرة توصلني – لوتمسكت بها – الى دروب " السلامة " وشاطئ " الامان"... الى دروب معبدة بالزهور والرياحين .. وموشاة بشتى المكاسب " الذاتية " المسيلة للعاب..ولم انتظر طويلا ولم يدم الصراع في نفسي الا فترة قصيرة جداً، حيث حددت موقفي واخترت طريقي فكان : المسرح.. مثلت على خشبته وكنت أباهي وافاخر لأنني ممثل !.. وعملت وراء كواليسه بحماس ولهفة .. وكتبت له محاولا قدر استطاعتي الاجادة والتعبير الصادق، شاعرا حتى هذه اللحظات، انني في البداية..وان امام انتاجي طريق طويل ليصل الى المستوى الفني اللازم لأدب مسرحي ناجح.. فاليوم وغدا وبعد غد سأحاول المضي نحو الاحسن، معتبرا كل انتاج جديد لي ، بداية جديدة لانتاج آخر أكثر نضوجا واكتمالا..". وهكذا كان العاني يدرك نفسه ان العناصر الدرامية الاساسية الناضجة غير متوفرة بالمستوى المطلوب في مسرحياته في تلك الفترة ، وفعلا نجد " آني امك ياشاكر " و" المفتاح" و" الشريعة" اكثر حبكة في تقديم الاحداث ودقة في تصوير الشخصيات والتخلص من اللهجة الميلودرامية في الحوار. وبدأ العاني تدريجياً بنبذ اسلوب الخطابة وإلقاء المواعظ على الجمهور كما كانت الحال في مسرحياته الاولى.
ان شخصية يوسف العاني تتميز بخصوصية "كاريزمية" تجعله في المقدمة دوماً، وربما كان نفسه لا يرغب في ذلك احياناً. فكان له في فرقته القول الفصل لدى اتخاذ أي قرار بشأن اختيار المسرحيات ومواعيدها وغير ذلك ، وايجاد الحلول لأية مشكلة تعترض العمل الفني او الاداري في الفرقة. وقد عرفته حازماً حيال اعضاء الفرقة مع احترامه للممثل. واذكر ان المرحوم عبدالله العزاوي كان في عرض مسرحية " رسالة مفقودة" يتناول جرعة ويسكي قبل الخروج أمام الجمهور. وعرف يوسف العاني بهذا بعد ان سمع ملاحظات بهذا الشأن من بعض اعضاء الفرقة. وقد اختلى العاني به جانبا وأوضح له بلطف ان هذا الامر قد يسئ الى سمعة الفرقة. ووقع حادث آخر حين طبع صديق طفولتي منير عبدالامير احد المؤازرين للفرقة قبلة على خد الفنانة ناهدة الرماح بعد نزول الستار في عرض مسرحية " حرمل وحبة سودة". حقا انني اعتبرتها آنذاك قبلة بريئة. لكن ناهدة انزعجت لا سيما ان زوجها كان حاضراً وراء الكواليس . وعندما علم يوسف العاني بالأمر رجا من منير عدم المجئ إلى الفرقة بعد هذا الحادث. وحدث ان زارت بغداد بعد ثورة 14 تموز فرقة شعبية بلغارية. وجرى الاحتفاء باعضاء الفرقة في فندق يقع في شارع أبي نؤاس. وقدم اعضاء الفرقة بعض المقطوعات الغنائية والرقصات. وكان من الواجب أن يقدم الجانب العراقي شيئا بالمقابل. واتجهنا بأبصارنا الى يوسف العاني الذي كان يتولى ادارة مصلحة السينما والمسرح لمعرفة ما يجب عمله. فقدم بنفسه مشهداً مقتبساً من حلقات الذكر لدى الدراويش، بينما قدمت مجموعة من الشباب بعض الاغاني العراقية بمرافقة "الدنبك" والتي حظيت بإعجاب البلغار.
ولئن وصف الكاتب غائب طعمة فرمان فترة الخمسينيات بفترة" الحكم الاسود"، فان الفترة بعد مجئ عصابة صدام حسين الى السلطة يمكن تسميتها بفترة " الكارثة". فقد أراد الرئيس العراقي المستبد توظيف الثقافة والمثقفين جميعاً في خدمته فقط. وأذكر ان الفنان حافظ الدروبي قد زار موسكو في اواخر السبعينيات وكنت قد شددت الرحال للعودة الى الوطن فقال لي:"لا تفعل ذلك ولاسيما ان زوجتك اجنبية..الا تعرف انهم حولونا الى "شوادي"(قردة!). وكان قصده ارغام الاساتذة على صعود خشبة المسرح لينشدوا اغنية في مدح للرئيس. وعرفت لاحقا ان العشرات من خيرة فناني المسرح والسينما في العراق قد غادروا البلاد للعمل في سورية والكويت والامارات وتونس والمغرب وفي أي مكان آخر، وليس في بلدهم العراق، بعد ان اصبح الوضع لا يطاق، وسدت كافة سبل الابداع أمامهم. وبالنسبة إلى فرقة المسرح الحديث التي يعتبر العاني الدينامو المحرك لها فقد اضطرت الى التوقف عن العمل واغلق مسرحها(مسرح بغداد) الذي أسسته. ولكن يوسف العاني حاول بهذه الوسيلة و تلك انجاز اي عمل مسرحي مهما كان بسيطا. كما ان نشاطه في المجال السينمائي الذي بدأه بفيلم " سعيد افندي "قد توقف كليا.
لقد كان يوسف العاني يغادر العراق في فترات المحنة وحين تضيق به السبل ليعود اليه بعد فترة قصيرة ، وبعد الاحتلال الامريكي اضطر للسفر مجددا وهذه المرة الى الاردن لأسباب قيل انها تتعلق بمرض قرينته، وذلك بعد تدهور الحياة المعيشية في بغداد التي اصبحت بدون كهرباء وماء وخدمات المرافق العامة. وقد استغل فترة وجوده في الاردن اتي استمرت 5 أعوام لنشر بعض اعماله ومنها ذكرياته عن الفن في العراق بعنوان "شجون كانت مؤجلة" سجلت بأسلوبه السلس والرشيق. وتزامنت هذه العودة مع ذكرى مرور حوالي ستين عاما على اعتلائه خشبة المسرح ، وكان لا بد ان يجد العاني ما يستحقه من تكريم وحفاوة في وطنه من جانب الاوساط الثقافية في بغداد التي تحن الى الامسيات التي كان فيها العاني يقدم ابداعه.ان يوسف العاني – واتمنى له العمر المديد بعد تجاوزه الثمانين من العمر لمواصلة العطاء - سيشغل فصلاً رائعاً من تأريخ المسرح في العراق الذي منحه كل طاقاته الابداعية وتحمل الكثير والكثير في سبيل قيامه.
11/10/2011