ادب وفن

قراءة في تجليات "ذهب مع الريح" / عبد الجبار نوري

بلغت مارغريت ميتشيل بروايتها الوحيدة "ذهب مع الريح" شهرة لم تصل اليها كاتبةٍ روائية من قبلها، لقد طُبع أكثر من خمسة عشر مليون نسخة من الرواية، وتُرجمتْ الى ثلاثين لغة عالمية منها اللغة العربية، واحتوتْ الرواية على 1037 صفحة، ولآنّها أبرزتْ أشهر العلاقات الغرامية في تأريخ الأدب والسينما، حيث حُولتْ الرواية إلى فيلم سينمائي عام 1939 بطولة كلارك كيبل وفيفيان لي، مدة العرض 3 ساعات و42 دقيقة، وأعتبر أحد أعرق أفلام القرن العشرين، ورشح الفيلم لثلاث عشرة من جوائز الأوسكار وفاز بثمانٍ منها، وقد شاهدتُ الفيلم في بغداد شخصياً في صيف 1969 عندما عُرض على صالة سينما روكسي في شارع الرشيد أيام الزمن الجميل عندما كانت بغداد الحبيبة تزهو بصالات دور العرض الراقية بأحدث تكنيك فني مثل سينما سميراميس وأطلس والخيام وروكسي وريكس.
مناقشة آراء مؤلفة الرواية
أولاً/ في موضوع "الحب" ان ماركريت أكملت القصة بثلاثٍ من السنين 1926-1929 في كتابة هذه القصة المستفيضة، جعلت بؤرتها قصة حب جنونية ملتهبة بين شخصيتين مختلفتي التفكير صلبتي العود من الرجال والنساء هما "سكارليت أوهارا، وريت بتلر" وأدارت حول هذا الحب المضطرم والمعقّد أحداث الفترة التأريخية والأجتماعية بين الشمال والجنوب بسوسيولوجية جمعية وتأثيرها في حياة الناس وأحوالهم، وأعتقد أنها نجحت في هذا المجال بشكلٍ واضح في جغرافية الجنوب الأمريكي بالذات مدينتها "أتلانتا" بيد أنها لم تصل في توجيه وترويض عواطفها الرومانسية بالاتجاه الصحيح. كان الحب الأول "آشلي – ويليكس" عشقتهُ بجنون إلى حد الهوس ولكنهُ لم يبادلها تلك المشاعر، ورفضها ليتزوج بابنة عمهِ، سرعان ما أطفأتْ هذا الحب بحبٍ جديد "ريت باتلر" بطل الرواية وسُجنَ عند دخول اليانكيين إلى الجنوب لقتله رجلاً أسوداً لإهانته امرأة بيضاء، وساعدها في دفع فاتورة الضرائب الباهضة ولكنها نكرت الجميل وتزوجت من ثري وقُتل في الحرب الأهلية، وثم تعود إلى حبها بتلر ثانية نادمة تبدو "سكارليت" في الرواية كشخصية مركبة تجمع المتناقضات، فهي لا تحب اخوتها ولكنها تعتني بهم، وكانت تتميّزْ بالبخل والطمع ومع ذلك كانت تقدم المساعدات إلى أصدقائها، وفي نهاية الرواية يتركها حبيبها ريت بتلر وإلى الأبد ليتطاير حبها مع الريح العاصف. "أهكذا يتم التعامل مع كلمة الحب المخملية الشفافة"؟. لقد اتهمها الكثير من النقاد بالإسفاف والتهافت في ترجمة مفهوم الحب الذي هو "منبع السعادة، ومرفأ الأمان، وسر القلوب، بل هو أسمى المشاعر الإنسانية على الأطلاق، والذي يبقى صداه خالداً مدى الأزمان لكونه مغلف بالأنسنة والرحمة والعطف ومجرد من الشهوة الحيوانية أو المصلحة".
ثانياً/ موضوع " الأبارانايد " التمييز العنصري الذي فرض نفسهُ على زمكنة كتابة الرواية، وهو صراع الكونفيدراليين مع اليانكيين بسبب البشرة السوداء، واستمرت الحرب من عام 1861 -1865 وسقط فيها آلاف الضحايا وانتشر الخراب والدمار في مناطق عديدة، واحترقت مدن بكاملها، فكان تعرض ماركريت ميتشل لهذا الموضوع الحساس بشكلٍ خجول وتصوير الأفارقة الأمريكيين بصورة نمطية تعزز كونهم ليسوا أكثر من مجرد تابعين أو خدم للبيض، وعند تحويل الرواية إلى فيلم حذف مخرج الفيلم "دافيد سيليزنيك" اليهودي الليبرالي المناهض للعنصرية المقاطع العنصرية مثل انتماء أزواج ماركريت ميتشل على التوالي آشلي، بتلر وفرانك كندي إلى جماعة الكوكلو العنصرية التي كانت تروّع وتعذّب السود إبان الحرب الأهلية، وتروع البيض المساندين لهم في عمليات تطهير عرقية منظمة، وكذلك حذف أي مقطع يمجّدْ بمنظمة Kuklux Klan العنصرية، كما حذف اصطلاح Nigger المهين من سيناريو الفيلم رغم حشو ماركريت ميتشيل بها.
ثالثا/ هناك هنات وهفوات غير مقصودة يفترض بالمؤلفة العبقرية المحنكة عدم ذكرها أصلاً مثل: فقرة اغتصاب ريت بتلر زوجته سكارليت أوراها لاستخدامه القوّة في ممارسة الجنس معها وهي اهانة للمرأة وتدخل ضمن العنف الأسري، وكانت مؤلفة الرواية ماركريت ميتشيل تقصد بهذه الفقرة انها نوع من الرومانسية الممتزجة بالعنف، كذلك موافقتها على اختيار الممثلة الحسناء البريطانية "فيفيان لي" لأداء الدور البطولي في الفيلم بدلاً من مئات الفنانات الأمريكيات أدى إلى غضب شعبي عام خاصة أن سكارليت أوهارا تعتبر "أيقونة أمريكية" واختيار ممثلة بريطانية لأداء دورها ما هي إلا إهانة للقومية الأمريكية، ويعني هذا أن "ذهب مع الريح " تمرد على الكثير من المحظورات في وقتها، وكذلك يطلق خلال الرواية عبارة "أنكل توم" مزاحاً غير مقصود على الخادمة ذات البشرة السوداء، وهي عبارة تستخدم لوصف الأفارقة الأمريكيين الذين يتذللون للبيض لكسب رضائهم، كما أن العديد من الأدباء الأمريكيين اعتبروا الرواية ضمن الأدب النسوي، لوجود إيحاءات بين سطورها للمرأة بكيفية التخلص من التسلط الذكوري في المجتمع والتغلب عليهِ، مما جعل معظم القراء من النساء.
أخيراً/ ان الرواية رغم كل ما أثير حولها من لغطٍ وجدل ستظل من أكثر الروايات جمالاً وحظوراً في ذاكرة القراء والمشاهدين فقد اصطفت إلى جانب الروايات الملحمية والأسطورية الخالدة والغارقة في التفاصيل الملتهبة التي لا تموت بكل عيوبها وفضائلها. ذهب مع الريح، أجل ذهب كل شيء، لأن ما حدث قبل قرنين لا وجود لهُ أبداً في الحياة المعاصرة والمعولمة بل فقط في ذاكرة التأريخ الرومانسي الأدبي، وذهب كل شيء أدراج الرياح آخذاً معهُ إلى اللانهاية ذلك الحب المهوس المضطرب والمفكك العرى والفاقد للتوازن السّوي في أحادية قطبهِ، وذهب مع الريح إلى العدم في قرارة الثقب الأسود، واتسعت تلك العاصفة السوداء لتلف العنصرية والتعصّب، وبقي بياض القلب بمجيء الرئيس "أبراهام لنكولن" ليسدل الستارعلى النظرة السوداوية للبشرة ويلوّح عبر تمثال الحرية أنها ذهبت مع الريح.