ادب وفن

رأيت فيه قائدا مهنيا دقيقا وديناميا / عبد الرحمن طهمازي

السلام عليكم ايها الاصدقاء
واذا امكن .. فالسلام على روح جلال
اعتبروني في موقف لا احسد عليه ، فان علاقتي بجلال تزيد على نصف قرن ، كانت علاقة تتعمق في الفترات التي كان فيها خارج البلد وانا كنت هنا في بغداد لكننا كنا على صلة ما . انقطعت عن جلال وانقطع عني او تقطعت بنا الايام زهاء عشرين عاما . ثم التقيت به في عمان 1994 ،اتصل بي آنذاك المرحوم عبد الوهاب البياتي وقال لي ان جلال هنا في عمان واتفق معه على ان نلتقي ، فالتقينا . كانت سنة 1994 سنة مليئة بالنقاشات والتفكر في انهيار المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفيتي .
هنا انا احدثكم حديث خبير بجلال من ايام العمل السياسي في نهاية الستينيات في العراق. وكما يقول احد الكتاب العظماء (فوكنر): انت مع الصديق لاتحتاج الى ان تبدأ من البداية، افتح اي صفحة وتحدث . نعم، التقينا وكان معي احد الاساتذة الكبار من جامعة شيكاغو والشاعر عبد الوهاب البياتي ومجموعة من الاصدقاء . انفتح الحديث عن الاتحاد السوفيتي الذي صار آنذاك سابقا وانا في الحقيقة تفاجأت من العقلية الدينامية العميقة لجلال، علما انني اعرفه معرفة طيبة وعميقة ومعرفة ثقافية وصحفية من ايام النصف الثاني من الستينيات. لكنني تفاجأت بشيء آخر هو القدرة على التحليل التاريخي العميق، والمحايد الى حد كبير. وهذه اول ملاحظة انتابتني من النزعة الموضوعية الرفيعة لجلال الماشطة. فقد تأخرت معرفتي باعماقه الى ذلك الحين والى تلك المناسبة المروعة للعالم جميعاً التي انتم تعرفونها جيداً .
انا اوافق على ما قاله صديقي مالك عن اللحظات التي تعرف بها ولكنني احب ان اقول ماهو مختصر جدا. لعلكم او لعل بعضا منكم قد قرأ رواية الكاتب العظيم جوزيف كونراد "قلب الظلام". هذه الصورة التي سأقولها لكم تخامرني دائما حول جلال بالضبط .. نص بحار يعلق عليه بكلمة موجزة حصيفة جدا، او جملة انا احب ان اسميها بعاميتنا تكمة. يقول كونراد عن بطله في السفينة انه كان يجذبه من الرجال اطول ما فيهم. نحن جميعا معرضون لننجذب الى الصلابة، والى ماهو عابر في الرجال وفي النساء وفي الاشياء . لكن ذلك البطل الذي قلت لكم انه يتمثل لي في جلال، ذلك البطل كان يجذبه من الرجال اطول ما فيهم. اي اعماقٍ تعيش في هذا البطل الذي لا ينجذب الا الى اطول ما في البشر . كان جلال حسب معرفتي به واعتقد حسب معرفة الكثيرين من الحاضرين هنا به ايضا، يجذبه من الناس سواء كانوا من اصدقائه او من الذين تعرف بهم في العمل او في غيره ، كان يجذبه افضل ما فيهم. اتعرفون ايها الاصدقاء ما قيمة هذا المعدن الذي ينجذب الى افضل الاشياء ؟
تحدث لي ذات يوم عن صديق، هو من الحاضرين هنا وهو صديق مميز، قال لي انه في ايام العمل في الخارج وجد هذا الصديق يستطيع الكتابة الصحفية بشكل مرموق . وكان جلال آنذاك مديراً لمكتب جريدة "الحياة" في موسكو. تحدث مع صديقه، وهو صديقي ايضا، عن امكانية ان يكتب تعليقات صغيرة لجريدة "الحياة" لانه يتمتع بقدرة على ادارة اللغة بمرونة وحيوية وواقعية، فوافق الصديق ووافقت الجريدة على ذلك، وبدأ صديقنا ينشر في جريدة "الحياة" . هذه لقطة تبدو حادثة عادية في اطار (تواطؤ) الاصدقاء، لكنها في اطار العمل الصحفي الذي يحتمل المنافسة غير المتوازنة تبدو شيئا آخر . تبدو من هذا القبيل الذي قلته لكم، انه يجذبه من الرجال افضل ما فيهم .
اختصر عليكم الملاحظات لانني اريد ان اصل الى لحظة عملنا بها سوية في الصحافة ، انا عملت معه فترة ليست طويلة، لعام واحد تقريبا. التقينا للحظة وذكر لي المشروع وتوكلنا على الله . ذهبت معه الى بناية الجريدة التي كانت ترمم آنذاك، وهناك وجدت صديقين ماهرين في العمل الصحفي هما حسام الصفار ونصير النهر. وبدأنا نهيئ، ولكن في الحقيقة كانت الامور مهيأة قبل ان اذهب انا، يعني ما يسمى بالبنية التحتية.
وصدر العدد الاول وبدأت الدورة، انجذب الينا عدد من الاصدقاء سواء في التحرير او في الكتابة، مثل مالك المطلبي واصدقاء اخرين . ما حصل هو انني رأيت في جلال قائدا للعمل مهنيا ودقيقا وديناميا، هذه مهمة جدا، هو يكتب بطريقة دينامية حيوية، وكنا انا وهو نتباحث كثيرا في الاسلوب. هو صحفي قديم، وانا ايضا، وفي جلسات الاجتماع لهيأة التحرير، التي يشارك فيها معنا (على الاقل المراحل المتوسطة من العمل) مؤيد نعمة وعبد الرحيم ياسر وفلاح الخطاط، كنا نناقش ادق الاشياء ونناقش اتفه الاشياء هامشيا، ابتداء من طيّة الجريدة وانتهاء بالرأي العام .
اتعرفون ماهي مجاهيل الرأي العام؟ لا بد من التخصص في ادق شؤون التحرير . وكنت ارى جلال، وقلتها له مرات عدة، كنت اراه عبقريا اعلاميا، لم اتعرف على مثيله في عملي منذ الستينيات في الصحافة العراقية .
اعذروني واشكركم على حضوركم لتكريم واستذكار هذا الرجل الكبير، الذي عمل بتفان وحرص على الوطنية العراقية وعلى تقدم البلد وازدهاره صحفيا واعلاميا وسياسيا بشكل عام.
شكرا لكم