ادب وفن

المكان كجوهر ذاتي / مقداد مسعود

يثبّت القاص باسم الشريف إجناسية "قصص قصيرة" على مجموعته الثانية "سعادات الأمكنة المضاعة" لكن المكوّن السردي حاضنة لإجناسيات عدة، فهناك سرود تحت عنوان "نصوص" وهي ثلاثة: سطوة الوجوه والمطر، وأطياف نظران، والبوابة والأساطيل، يلي ذلك إجناسية سردية أخرى: قصص قصيرة جدا، بعدها إجناسية ثالثة شهادة قصصية وعنوانها الذرائعي "جماعة البصرة أواخر القرن العشرين شاهد على العصر" ويستقبلنا المطبوع بتسع قصص قصيرة.
من خلال قراءتي المنتجة ، رأيتُ بعض هذه القصص متوفرة على جماليات جنس "النص" وليس القصة القصيرة، كما هو الحال في "الزمن الحميم، صانع الرؤى، بورتريه"، أما قصته "الكتاب الجامع" فهي منشورة في مجموعته القصصية الأولى "شواهد الأشياء".
* *
إذا اجتهد القاص باسم الشريف ،وأعتنى أكثر بإجناسية "النص" فمن الممكن أن تكون نغمته السردية الأجمل، فمن خلال التمعن فيما كَتَبَ في هذا المضمار، ثمة قدرات كامنة لدى باسم الشريف، وعليه أن يبذل كدحا سرديا مضاعفا في هذا الخطاب السردي الماتع والصعب اصطياده في الوقت نفسه، وبالطريقة هذه يحرث سردا في أرض بكر وينشغل/ يشتغل في إجناسية لم تتوقف لديها طاقات الآخرين.
* *
حين أعاود قراءة المجموعة، بالكشط، ستتخلخل مفردة: سعادات، ثم تتحول "أسى الأمكنة المضاعة" وفي قصة "صوامع الجند" ستكون الاستعادة انتباذ الواحد عن الكثرة في لحظتنا المعيشة، والانجذاب إلى المفتقد لدى الواحد في كثرة متشظية مع قنابل وقنابر وصواريخ حروب العراق، واللائذ هناك "يكفّر بعض الشيء عما أقترفه ابان تلك الحرب الطاحنة" في حين يعلن السارد "أدعو الحرب إلى أن تكفّر هي عن آثامها" وكلاهما هو وما يجري بينهما هو تراسل مرآوي بتوقيت زمن نفسي مصاب بـالتعاسة في ذات عراقية مشروخة، كأننا مع نسخة عراقية من ذلك الكونت المشطور لدى الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو، فالسارد في قصة "صوامع الجند" هو المكان والمكين من خلال ذاكرته المشروخة، هو الراسخ في ذاكرته وهو الآفل ميدانيا، وفعل التذكر هو فعل بحث أيضا وبشهادة السارد "تجولت بين المواضع بحثا عن ذلك المقاتل المتنسك" وربما سيكون هذا البحث محاولة علاجية لانتزاع ما تبقى من تلك الذات المتشظية في "جنود وحدات الميدان الذين يحصون الضحايا ويرسلونهم إلى المراكز الخاصة بإيصالهم إلى ذويهم". ذات تحاصرها "فرق الإعدامات المكتظة بها خلفيات الوحدات والجسور، والتي قتلت أكثر مما أخذته الحرب".
ومن شراسة الحرب المؤدية إلى تفريغ الأزقة من البيوت وساكنيها من هذا الفراغ المدوي العنيف: ستشهد الأزقة غرائبية الحرب "مشاهد فاضحة على مرأى ومسمع الجثث التي لم يبرد لحمها بعد" هكذا ينبجس الانزياح في القيّم والسلوك وفق مقياس البغي المقدسة: الحرب "الكل يمارس حضوره وواجباته الخاصة" بشهادة السارد، وفي طريقه للبحث عن ذاته، أعني عن المشطور من ذاته، سيوقظ الزمان الآفل خلاياه الميتة.
في النظام الفسلجي للمكان – إذا جاز القول – "كانت أصداؤهم تصلني عبر أكياس التراب، المحيطة بالمواضع وهي من أعطتني هذا الدفق الذي استفز الذاكرة". ثم يتمرحل تقدم السارد نحو ذلك المقاتل المتنسك:
(1) رحت أتنصت ...
(2) تقهقرت بعض الشيء
(3) ثم أويت إلى خندق
(4) ثم رحت أتنصت من عمق الشق لم يعد بمقدوري التقاط أي شيء مما يدور هناك.... ثم يشعر السارد أنه خارج السيطرة، فقد اكتملت يقظة : تلك اللحظة الآفلة وأنطلق الحشر المصنّع عسكريا بقيامته العراقية.. "كنت أشبه بجهاز تنصت تمت السيطرة عليه عبر إغراقه بموجات عالية التردد موجات تضرب مدياتها في الأبدية، هناك حيث يسخر الجند، وضحايا الحروب من كوميديا معارك طاحنة"... وفي الكوميديا السوداء أن مواد إنتاج الحروب هي دائما لا حول ولا قوة، أعني الذين يتقاتلون، كما حدث بعد 8/ 8/ 1988 في تلك الجبهة المتطاحنة وبعد أقل من شهر، خلع المقاتلون قمصانهم وجرت مباراة بكرة القدم بين فريق عراقي من سرية الحجاب وفريق من الجنود الإيرانيين في قاطع سيف سعد وحين تتأخر سيارة حانوتهم، يهرولون نحو الإيفا التي تجلب الحانوت لنا.. وحين يتأخر "تنكر الماء" نملأ جلكاناتنا من "تنكر" الجنود الإيرانيين.. إذن الأمر كما يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري.. "الحرب مجزرة بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض من أجل أناس يعرفون بعضهم البعض لكنهم لا يقتلون بعضهم البعض..".
* *
ثم تتكشف لعبة السرد في هذه القصة الماتعة "صوامع الجند" أعني لعبة التراسل المرآوي للذات العراقية التي شطرتها أمزجة الطاغية.. "من بعيد لمحت شخصاً قادماً نحوي، يمشي بخطى هادئة مطمئنة، له نفس ملامحي، غير أن ملامحه أكثر سماحة مني، سمعته يدعوني بصوت يشبه صوتي، داعياً إياي للدخول إلى صومعته..".
* *
قصة المسفن وصوامع الجند.. المشترك الاتصالي فيهما هو الانتباذ المجتمعي بقرار شخصي، جماليات سردنة الشعر، تكون ذروتها في الصفحة الأول من قصة المسفن وأرى الرائحة شخصية رديفة لشخصية البطل اللا مسمى، فالرائحة في السطور وما بين السطور، وكلاهما: الشخصية اللا مسماة في المسفن/ والمقاتل المتنسك في صوامع الجند تنشط لديهما "الغدة التخيلية" إذا جاز التعبير، وإذا كان المتنسك يتماهى بذاكرته التذكارية، فأن بطل المسفن ينشّط مخياله بتعاطي الترياق فيرى ما لا يراه سواه. ومثلما كانت الحرب العراقية الإيرانية حاضرة بشراستها التي أمحت الحاضر الذي يعيشه السارد، فإن المسفن يعيدنا، إلى الحرب العالمية الثانية، حيث انتشر الجنود الهنود الكركة في البصرة.
* *
المخيال هو الرابط التفاعلي بين قصة "سعادات الأمكنة المضاعة" وقصتيّ: المسفن وصوامع الجند..، إن السارد يسعي إلى توسيع الفضاء النصي ذاته من خلال متغيرات الموضع، فالمقهى الذي كانت بيتا منذ قرن من الزمان، يستفز أحدهم "لا أفقه تماماً لماذا نأوي إلى هذا المكان الحزين والضاج بالمجانين..". ثم يختار السارد شخصا يلائم شعرية قدامة المقهى، كما أختار المقاتل المتنسك في/ صوامع الجند.. وشخصية اللامسمى الحشاش، فإنه في هذه القصة يختار شخصية "تنتمي إلى أزمنة المسرات والرضا..في الآونة الأخيرة أخذت حالة الرجل بالتدهور وراح يتفاقم لديه إحساس عميق بالعزلة والفقدان. كنا نلمس ذلك في الحوارات الوهمية التي كان يجريها مع شخوص مفترضين يظن أنهم مازالوا يقطنون هنا..".
ان المخيال كمشترك اتصالي بين القصص الثلاث هو بوظيفة:"رؤية وطريقة خاصة ومختلفة في إدراك العالم".
* *
في "برناردشو.. صديق والدي" استلمتُ كقارئ سردين لهذه القصة، حدث ذلك بتوقيت قراءتي النص المكتوب.. إذا تذكرتُ النص الشفاهي الذي أخبرني به الشاعر الفقيد سلام الناصر حين قصدتهُ في بيته معزيا بعد أيام على مقتل ولده علي برصاص الامريكان.. لكنني الآن وبتوقيت قراءتي النص القصصي الذي لا يكتفي بالتوثيق بل يمزجه بمخيال قصصي لابد منه. لا يمكنني أن أحذف الصوت الشفاهي للشاعر المفجوع بولده، وهكذا تمتاز قراءتي عن قراءات الآخرين بهذا الامتياز الموجع.. إذن وحدي من يمتلك نصين مختلفين تمام الاختلاف ولا يلتقيان إلاّ بمقتل علي سلام الناصر..
* *
السرد: شبكة ينسجها السارد الذي ينتجه المؤلف، وهذه الشبكة تحاول اصطياد المفتقد المثنوي: الزمكاني: وقت/ موضع وأجمل ما في هذه الشبكة أن عيونها الواسعة لا تحتفظ بأي شيء.. "وحده الحزن أخذ يقدم مظهراً متشابهاً تتوحد فيه الملامح من خلاله".